اتّخذ التدخّل الإيراني في سوريا أشكالاً وأبعاداً مختلفة على مراحل، من حيث طبيعته وحجمه وتأثيره، بدءً من إرسال طهران عدداً من “المستشارين” الأمنيين إلى دمشق للمساهمة في وضع خطط الأسد لقمع الثورة السورية منذ بداياتها، ثم مشاركة عناصر إيرانيين في تنفيذ تلك الخطط الأمنية على الأرض. بعدها انخرطت إيران في الحرب إلى جانب النظام، مباشرةً وعبر الزج بـ”حزب الله” وميليشيات عراقية، ثم تشكيل مزيد من التنظيمات الدينية العسكرية، وصولاً إلى مرحلة الاحتلال الصريح لكثير من المناطق، والسيطرة على مفاصل عسكرية وأمنية واقتصادية داخل نظام الأسد، وذلك بالتوازي مع التغلغل المستمر في النسيج الاجتماعي السوري والتلاعب به.
من الأسباب التي أسهمت في تمدّد النفوذ الإيراني، أنّ ملالي طهران استفادوا إلى أقصى درجة من تذبذب السياسات الأميركية في المنطقة وانكفائها النسبي، لاسيما في عهد الرئيس أوباما، الذي اعتمد الدبلوماسية والقوّة الناعمة لإنجاز الاتفاق النووي، فكانت فرصةً سارع الإيرانييون لاستغلالها. في النتيجة باتت إيران عنواناً لأحد الملفات الإشكالية الكبرى في القضية السورية، وبنداً ثابتاً على جداول أعمال اجتماعات كبار مسؤولي دول الإقليم والعالم المعنية بالشأن السوري.
والحديث عن الوجود الإيراني في سوريا ومستقبله، لم يعد أمراً يخصّ السوريين فقط، وإنما موضوع تجاذبات وصفقات بين مختلف الدول المنخرطة في شؤونهم، وفق ما يظهر من التصريحات الدبلوماسية حيناً، والضربات العسكرية أحياناً. ويبدو من شبه المؤكّد أنّ وجود إيران ودورها في سوريا هو أمرٌ غير مرغوب فيه لدى مختلف الأطراف، إذ لا يقتصر ذلك على من يعلنون صراحةً مواقف عدائية تجاه طهران، كالولايات المتحدة وإسرائيل وبعض دول الخليج فقط، وإنما يشمل أيضاً الدول التي يُفترض أنها في موقع الحليف لها ولنظام الأسد الذي تدعمه مثل روسيا، وكذلك من ينوس بين مواقف متلونة براغماتية ومتباينة حيال إيران، على ما يفعل الرئيس التركي إردوغان.
صحيح أنّ مشروع إيران ليس وحده الرامي إلى أهداف توسّعية في سوريا، فهناك الأتراك في الشمال وإسرائيل في الجنوب, والأميركيون في الشمال الشرقي، فضلاً عن الروس في مختلف المناطق. غير أنّ للمشروع الإيراني خصائص ينفرد بها، تتعلق بالعنصر الديني الطائفي الذي يحمله، وما يتبّعه من استراتيجيات يشكّل فيها هذا العنصر عاملاً حاسماً. ورغم الفارق بين السياق اللبناني والسوري، إلا أنّ هناك من العوامل الثابتة في الاستراتيجية الإيرانية ما يتيح فهماً أكبر لما يقوم به الإيرانيون في سوريا، استناداً إلى تجربتهم في لبنان، حيث اختُبِرت هناك الاستراتيجية الخمينية وتطوّرت بمراحلها المختلفة إلى أن بلغت ذروتها في السنوات القليلة الماضية، مع سيطرة “حزب الله” شبه المطلقة على الدولة اللبنانية.
اقرأ أيضاً: في حيرة السوريين واضطراب معارضتهم
الاستراتيجية التي انتهجها “آية الله الخميني” وانتصر من خلالها، وما زالت تحكم سياسات نظام “الجمهورية الإسلامية” الذي أسّسه ويريد ورثته من الملالي تعميمه في المنطقة، هي استراتيجية تقوم على تصوّر للحركة الدينية السياسية (والعسكرية) بوصفها “حركة شاملة، كلّانية (توتاليتارية)”، ومن ثمّ “لا تقيم أي شأن للأبنية السياسية والاجتماعية المحلية وللعلاقات والوقائع الدولية”، وفق ما بيّن وضّاح شرارة، الذي درس منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي طبيعة الدور الإيراني وأدواته في لبنان. وعليه، سيغدو من المفهوم عدم اكتراث إيران بتعقيدات الواقع السوري الاجتماعية والطائفية، وما تنطوي عليه القضية السورية من صراعات دولية وإقليمية، وتجاهلها تشابكَ المصالح وتعارُضَها بين مختلف الأطراف, كما لا تبدو معنيةً بالضربات الإسرائيلية المتواصلة على مواقعها في سوريا، وما يترتّب عليها من خسائر كبيرة بشرياً ومادّياً.
من ناحية ثانية، رأى شرارة أنّ “التوسّل بالحرب العامة على عدو، ينبغي أن لا يُحصرَ ولا يعدَّ ولا يعرف”، شكّل الركن الأساس في الاستراتيجية الخمينية، والناظم في بناء جهازها السياسي والعسكري والثقافي. هذا يتأكّد أيضاً في تصريحات صحفية لسفير إيران الحالي بدمشق مهدي سبحاني، قال فيها أن المعركة في سوريا لم تنتهِ، وأنّ “أعداء سوريا” انتقلوا من الميدان العسكري إلى ساحة “الاقتصاد والمجتمع”، أي أنّ السفير الإيراني يريد تصوير تغوّل نفوذ بلاده في “ساحة الإقتصاد والمجتمع” السوري، بوصفه جزءاً من الحرب ومواجهة “الأعداء”.
لا يمرُّ يومٌ دون أن تنشر وسائل الإعلام الرسمية السورية أو الإيرانية أنباء اجتماعات المسؤولين الإيرانيين ونظرائهم السوريين، فإيران تواصل بدأب مشروعها لبقاءٍ مستدام وراسخ في سوريا على المستويات كافّة، العسكرية والأمنية (بشكليها النظامي والميليشياوي)، والاجتماعية والديموغرافية (بشقيها التبشيري أو عبر التهجير القسري)، وكذلك الثقافية والتعليمية (بعقد شراكات مع الجامعات السورية ووزارة التربية أو افتتاح مزيد من المؤسسات التعليمية والثقافية الإيرانية)، إضافة إلى المستوى الاقتصادي (بجانبيه: “الشرعي” من خلال اتفاقات رسمية طويلة الأمد بين حكومتي الملالي والأسد، أو اقتصاد الظلّ بالسيطرة على إنتاج وتجارة المخدرات). ومع احتدام التنافس وازدحام حلبة الصراع بين المتنافسين على الفوز بأكبر حصّة من تركة “الرجل المريض” الذي صارتهُ سوريا، يسابق الإيرانيون الزمن في تكريس نفوذهم وترسيخه، فالحفاظ على المكاسب أصعب بكثيرٍ من تحقيقها.