تحتل محافظات إقليم كردستان في إيران (آذربيجان الغربية، كردستان، كرمانشاه وإيلام) المرتبة الأخيرة بين المحافظات الإيرانية، على صعيد التنمية الاقتصادية، ولا تتجاوز حصتها عتبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي، أما نصيب الفرد من الدخل القومي، فأقل من 4% من متوسط الدخل الفردي، ويعيش في محافظات الإقليم حوالي 7 مليون مواطن كردي (إيراني) يقاسون إلى جانب الحرمان المادي، الناتج عن غياب التوزيع العادل للثروة الوطنية، حرمانا اجتماعيا وثقافيا، بسبب اختلافهم القومي والديني، عن المحيط.
وتظهر مؤشرات التنمية الاقتصادية، أن (الاختلاف) هو العامل الأول في تعمّق الفجوة الاقتصادية بين الإقليم وباقي مناطق البلاد، يضاف إليه، تمركز محافظاته الأربعة، في المناطق الحدودية، الأمر الذي أدى إلى تأخر التنمية الحكومية في الوصول إليها، ولعل التأخر متعمد، كما يؤكد البعض، فالحكومة المركزية في طهران، تتعاطى مع مجتمعات الأقليات بنفس تهميشي، أو لعله تأديبي، كما يشير آخرون، هدفه إفقار الإنسان الكردي وقمع روحه الحالمة بالاستقلال والخطرة على وحدة الأراضي الإيرانية.
هذه العوامل والأسباب وربما المخططات المدروسة، جعلت من محافظات الإقليم مناطق محرومة كلياً، على صعيد الإنماء والبنى التحتية العامة والخاصة والمشاريع التشغيلية وحتى المبادرات الاستثمارية للقطاع الخاص، وأدخلت سكانها في دوامة الفقر المدقع، وحرمتهم من الوصول إلى أبسط حقوقهم الإنسانية، على رأسها حق العمل، مما دفعهم إلى امتهان أشد الأعمال صعوبة وأكثرها خطورة على الحياة، التهريب.
فبعد انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية، أصبح العمل في تهريب البضائع من الإقليم، لبيعها في العراق وأحيانا في تركيا، أكثر المهن شيوعاً في المحافظات الحدودية، حيث تدفقت نحوه الأيادي العاملة، بل تزاحمت عليه، رغم أنه عمل محفوف بالمخاطر، التي تصل إلى حد فقدان الحياة أحيانا، وتحول معظم شبان الإقليم إلى مهربين، بسبب عدم وجود وظيفة دخلها يساوي دخل المهرب، أو تدر عليهم مالاً كالتهريب، خصوصا في العقد الأخير، بعدما استفحل الفساد في إدارات الدولة، وسيطر تنظيم الحرس الثوري، الكاره للكرد، على مصادر الثروات في البلاد.
ويعمل في التهريب اليوم، أكثر من 80 ألف شخص، تتراوح أعمارهم ما بين 13 إلى 60 سنة، الدافع المباشر لامتهانهم هذا العمل، هو البطالة والحاجة وقلة الحيلة وتدني الأجور، ولا تفرق المهنة بين أمّي ومتعلم، فأكثر من 20٪ من القادرين على العمل، هم عاطلون عن العمل، حتى الذين يملكون مؤهلات علمية يعملون في التهريب، بسبب عدم وجود فرص عمل، كما لا تفرق بين شاب وكهل، فمن يتمتع بجسم متين، يتحول إليها تلقائيا، ومن لديه أفواه جائعة في البيت لا مهرب أمامه من القيام بها، وإن كان امرأة، حيث سجلت السنوات العشرة الأخيرة، دخول النساء بقوة على خط التهريب، متنكرات بملابس رجالية.
النقطة المهمة التي يجب الإشارة إليها، لفهم تقبل مجتمع الإقليم لظاهرة التهريب، هي الجانب الإنساني والوجداني للعمل، بمعنى أنه باعتقاد سكان الإقليم، أن المهربين، أناس شرفاء ومكابدون، وهم محل تقدير وإعجاب واحترام، لأن غايتهم ليست التهريب بذاته، إنما تحصيل قوت يومهم ورزقهم الحلال، ولديهم الحق في ذلك، طالما البديل هو الموت جوعا، لهذا يستخدم سكان الإقليم مصطلح عتال (كولبر) للتعريف بأصحاب هذ المهنة البديلة، وينبذون مصطلح مهرب، وانطلاقا من هذه النقطة، يختلف تعريف المهنة محليا، عن تعريفها القانوني، ففي اعتبار السكان هم ناقلو بضائع، أما الجهات الحكومية فتعتبرهم مهربين، هذا التناقض بين السكان والحكومة، في فهم الظاهرة وبالتالي تعريف المهنة، ناشئ من تقديم السكان للمتطلبات المعيشية على المعايير القانونية من جهة، ومن جهة أخرى، انصراف الحكومة إلى الاهتمام بالجانب الأمني على حساب الاقتصاد.
يقطع العتالون عشرات الكيلومترات للوصول إلى العراق أو تركيا، من خلال معابر غير شرعية، ناقلين البضائع الأجنبية والمحلية من أجهزة تلفزيون ومكيفات هواء وسخانات وثلاجات وسجائر ومنتوجات غذائية وإطارات سيارات وملابس ومنسوجات وغيرها، من دون دفع رسوم وفقا للقانون، ويحملون على ظهورهم وأكتافهم، أوزانا تتجاوز أحيانا 50 كيلو غرام، ويستعين بعضهم بالبغال والحمير، ولا يهمهم حرّ الصيف ولا قرّ الشتاء، ولا وعورة الجبال ولا وحشة الغابات، ولا الجوع والعطش والتعب، ولا انهيار ثلجي ولا مطر ولا فيضان نهر، ولا حتى رصاص حرس الحدود التركية أو قناصة الحرس الثوري الإيراني.
ويعبر العتال الواحد الحدود، أربع إلى خمس مرات في الأسبوع، ويبتعد خلال مسيره قدر الإمكان، عن المناطق الصخرية والمنحدرات الحادة والممرات الجبلية الوعرة، وكذلك عن نقاط التفتيش الحدودية ومراكز الدوريات، تجنبا للوقوع في كمين، يصادر بضاعته ويسوقه إلى السجن، وخوفا من الرصاص الذي ينهال بشكل مباشر على الرؤوس ومن دون إشعار مسبق، ورغم هذا، يفقد سنويا أكثر من 30 عتالا حياته بالرصاص، وتسجل مدن مريوان، سرداشت، اشنويه، بانه، نوسود وكرمانشاه، أعلى نسبة من الضحايا، إضافة إلى أخرين يلقون حتفهم بالانهيارات الثلجية أو الانزلاقات أو الغرق أو الاجهاد.
تكريما لجهد العتالين وتضحياتهم ولدورهم المهم والوحيد، في إنعاش الإقليم اقتصاديا، تحتفل المحافظات الأربعة، في 2/نوفمبر من كل عام، بيوم العتال (روز كولبر) في المقابل، يعمد عناصر الحرس الثوري، في هذا اليوم، إلى التعامل مع كل خيال أو حركة أو صوت على الحدود بإطلاق الرصاص من مسافات قريبة جدا، وغالبا ما تغيب شمس اليوم التكريمي، على وداع 15 ضحية على الأقل، وفي اليوم التالي يصحو فقراء إقليم كردستان المهمشون، يدفنون موتاهم ويستأنفون أعمالهم، لأنه “ليس للكردي سوى العمل”، كما عنون المخرج السينمائي الكردي جمشيد بهرامي، فيلمه الوثائقي، عن مآسي أبناء شعبه بين ضفتي وطنهم المسلوب.