الاختلاف السوري المعارض!

في البحث عن توصيف “موضوعيّ” يعبّر عن الأحوال السورية الراهنة، تتزاحم الأوصاف والمصطلحات، نظراً إلى تنوع مجالات الخراب وتعدّد مستويات الضياع التي صارت إليها البلاد وأهلها، مع استمرار ما تبقّى من سلطة الأسد المُعاد تدويرها و”التطبيع” معها، واستفحال الاحتلالات الخارجية، وهيمنها على حياة السوريين ومصائرهم، على كامل الأرض السورية، وباختلاف سلطات الأمر الواقع المسيطرة على كلّ جزء منها.

من بين الكلمات التي يقترحها ثراء اللغة في صدد سوريا وأحوالها، ثمّة واحدة قد تكثّف المعاني وتبدو الأكثر تعبيراً عن الواقع هي كلمة “الانهيار”، إذ تشمل (كلّياً أو بشكل جزئي) ما أصاب السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والأمن الغذائي والنسيج الاجتماعي،… الخ. حتى نظام الأسد، وبعد أن استطاع الروس والإيرانيون إنقاذه حين شارف على السقوط، لم يعد “النظام” نفسه الذي كان، من حيث الإمكانيات والقدرة على الإمساك مجدداً بكامل البلاد، وإن احتفظ بجوهره المافيوي الوحشي والاستبدادي.

وحده “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” لم يتأثّر. انهار كلّ شيء وبقي الائتلاف، دون أن تهزّه الخلافات والانسحابات التي تعصف به من حين لآخر، ولا فضائح الفساد المالي والإداري المتكرّرة (ومن أشهرها فضيحة جوازات السفر المزوّرة)، لكأنّه قدرٌ خيّم على فضاء العمل السياسي السوري المعارض، لا فكاك منه ما دامت مصالح رعاته تقتضي ذلك.

للتشكيلات الائتلافية في عالم السياسة طابع مؤقّت، بوصفها تضم أطرافاً يحملون رؤىً وأيديولوجيات مختلفة، لكنهم يتوافقون مرحلياً على تحقيق مصالح وأهداف مشتركة، وينفرط عقد التحالف عند إنجاز الأهداف أو تعثّرها وتبيّن فشل الأطراف في العمل معاً لتحقيقها. في هذا أيضاً كان “الاستثناء السوري” حاضراً، من خلال “الائتلاف”، الذي يبدو أنه تحالف من طينة تختلف عن طبيعة التحالفات، فهو ما زال مفروضاً على معارضي النظام من الشعب السوري بوصفه ممثلاً عنهم، على الرغم من فشله المزمن في تحقيق أيّ شيء لهم، أو حتى في الالتزام بما تنصّ عليه وثائقه التأسيسية، طيلة تسع سنوات مضت منذ الإعلان عن تشكيله، في مثل هذه الأيام من تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، بعد اتفاق برعاية دولية، بين “المجلس الوطني السوري” وبعض قوى المعارضة التي لم تكن جزءاً منه.

بحسب الوثائق الرسمية له، “يلتزم الائتلاف الوطني بالثوابت الوطنية للثورة السورية، ويستند إليها في شرعيته. ومن أهم هذه الثوابت: الحفاظ على السيادة الوطنية، واستقلالية القرار الوطني السوري. الحفاظ على وحدة التراب الوطني السوري. الحفاظ على وحدة الشعب السوري. إسقاط نظام الأسد بكل رموزه وأركانه، وتفكيك أجهزته الأمنية، ومحاسبة من تورط في جرائم ضد السوريين”. لكنّ جردة حساب بسيطة لمحصّلة السنوات الماضية من عمر الائتلاف، تبيّن تفريطه ببعض “أهمّ” الثوابت التي يدّعي التزامه بها، وبالتالي سقوط شرعيته المستندة إليها، فلا هو حافظ على “السيادة الوطنية ولا على “استقلال القرار الوطني” ولا على “وحدة التراب السوري”.

هذا الكلام ليس هجاءً انفعالياً، ولا هو اتّهامات “كيدية” لتعطيل مسيرة الائتلاف المظفّرة، وإنما قراءة للدور الذي انتهى إليه، لاسيما في المرحلة التي تلت التدخّل العسكري التركي المباشر في سوريا، حيث تحوّل الائتلاف إلى أداة طيّعة في يد الحكومة التركية، وبات جزءاً عضوياً من مشروعها لتكريس نفوذها في المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري، بالاعتماد على ميليشيات سوريّة، معظمها إسلاميّ الهوى، أعادت تركيا تنظيمها ضمن ما سُمّي “الجيش الوطني”، الذي قدّمت له حكومة الائتلاف الغطاء السياسي، عبر تبعيّته الشكلية لـ”وزارة الدفاع” في “الحكومة السورية المؤقتة”.

إنّ كلّ حديث عن صفة تمثيلية للفاعلين السياسيين، في الحكم أو في المعارضة، لا تنشأ عن الاختيار الحر الواعي للمحكومين الذين يُفترض أنّ أولئك الساسة يمثّلون مصالحهم، هو حديث يفتقر إلى الدقّة. لا شكّ أنّ ظروف الثورة السورية والعوامل التي نشأت هياكل المعارضة في ظلّها لم تكن تسمح بمثل هذا الانتخاب، لكن الموقف الشعبي هو أحد أشكال التعبير الديمقراطي عن صحّة التمثيل من عدمه. الائتلاف قوبل بحملات متكرّرة تعبيراً عن الرفض الشعبي له، نتيجة فشله السياسي، وفساده، وارتباطه المكشوف بمصالح الدول الراعية له على حساب المصلحة السورية، وكثيراً ما خرجت مظاهرات في “مناطق المعارضة” تندّد به وبرموزه، وبلغ الأمر درجة إحراق صور مسؤوليه وشتمهم علناً. لكنّ ذلك كلّه لم يعنِ للمؤتلفين أو داعميهم ورعاتهم الإقليميين شيئاً.

الثابت (ائتلافياً)، أنّه بغضّ النظر عن هوية الشخص الذي يتصدّر في “منصب رئيس الائتلاف”، فإنّ البنية الصلبة القادرة على التحكّم بخيوط الائتلاف ظلّت إخوانية، وأيّ تعديل في بنيته عند انضمام كتل وشخصيّات إليه أو خروجها منه، لم يؤثّر في موقع “جماعة الإخوان المسلمين” المهيمن داخله، بدليل استمرار نفوذها الواسع في هيئة الرئاسة والهيئة السياسية للائتلاف، سواء من خلال أعضاء الجماعة الرسميين أو أولئك المرتبطين بها وجرى ضمّهم إلى الائتلاف باسم هياكل وتكتلات وهمية للتمويه على خلفيتهم الإخوانية، فضلاً عن المنتفعين السائرين في ركبها. من هنا تأتي المسؤولية الرئيسية للجماعة عن مراكمة الفشل تلو الفشل في أداء جسم سياسي كان يُفترضُ به تمثيل الثورة السورية والتعبير عنها سياسياً، دون أن يعني ذلك إعفاء بقيّة مكوّنات الائتلاف من مسؤولياتهم. في الحدّ الأدنى، ارتضوا التبعية للإخوان مقابل فتات من المكاسب، فكانوا شهود زور وشركاء في هذه المهزلة.

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد