في حيرة السوريين واضطراب معارضتهم

بعد مضي عشرة اعوام من الصراع السوري بات يمكن ملاحظة أننا إزاء متغيرات أساسية، أولها، إن الصراع بشكله المسلح انتهى تقريبا، أو انتهت مهمته، بقرار دولي واقليمي، علماً إن ذلك يحصل دون أن تثبت المعارضة السورية نفسها، وهي أصلاً لم تثبتها حتى في طور وجود مناطق “محررة” تحت سيطرتها، بسبب تخبط العمل العسكري، والارتهانات الخارجية للفصائل، وبسبب هشاشة بني المعارضة السياسية، مع عجزها عن التحول إلى كيان جمعي يعبّر عن السوريين، ويمثلهم ويدير كفاحهم ويؤكد تمسكه بالمقاصد الأساسية للثورة المتمثلة بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية. وثانيها، ادخال تركيا تغييرات مهمة على سياساتها الإقليمية، وبخاصة إزاء الصراع السوري، خصوصاً مع إيلائها المسألة الكردية أولى اهتماماتها، وأيضاً، بتحولها نحو إيجاد توافقات مع إيران في المواضيع الإقليمية، وانفتاحها مؤخرا على إيران، واستعدادها لتطبيع علاقاتها مع باقي الدول العربية (سيما مصر والسعودية)، وكان التحول الأساسي تم تدشينه قبل سنوات مع انخراطها في تحالف استانة مع شريكي النظام (روسيا وإيران)، وموافقتها على خطة المناطق منخفضة التصعيد، التي آلت إلى خسارة “المناطق المحررة”، واستعادة النظام السيطرة على معظم الأراضي السورية في الجنوب والوسط والشمال. وثالثها، أن الصراع السوري بات تماماً في أيدي الأطراف الدولية والإقليمية (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل)، إذ باتت سوريا بمثابة منطقة نفوذ لتلك الأطراف، مع تأكيد أن الولايات المتحدة هي المقرر في حسابات حسم الصراع بهذا الاتجاه أو ذاك؛ وهي اللحظة التي لم تأت بعد في الحسابات الأمريكية.

هذا الإيجاز لمآل الصراع السوري، بعد عشرة أعوام، يفرض علينا إجراء مراجعة نقدية للتجربة السورية، في الثورة والمعارضة، في الصراع السياسي والعسكري، وملاحظة حيرة السوريين، واضطراب معارضتهم، بهشاشة بناها، وتبعيتها، وأوهامها، وفي الواقع فقد افتقدت ثورة السوريين، منذ البداية، لمرجعية سياسية فهي عرفت كثورة عفوية، وهذا، أيضا، نتاج عقود من محو المجتمع، واحتكار السياسة والسلطة والمجال العام من قبل النظام، لذا ليس غريبا ولا مفاجئا إن يختلف السوريون على كل شيء، وربما إن هذا الاختلاف يمهد لتعلم قبول الأخر، وتعود التعددية، وتفهم التنوع، ما يمهد لقيام اجماعات جديدة، و هذه هي بداية السياسة.

في هذا الإطار، يمكن تحديد أوجه القصور أو الخلل، في المجالات الآتية:

أولاً، التعويل على التدخل الخارجي، على مثال ما جرى في العراق وليبيا، وهو الأمر الذي شجعت عليه تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما وأركان إدارته، كما شجع عليه تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بل إن النظام العربي ممثلاً بالجامعة العربية اعطى إيحاءات بذلك من خلال تجميده عضوية سوريا في الجامعة العربية. هكذا تمت تسمية أحد أيام الجمع باسم “جمعة التدخل الخارجي” في بدايات الثورة. الأمر هنا يتعلق بالتعامل بنوع من سذاجة مع هذا الأمر كأن الدول بمثابة جمعيات خيرية أو شرطة إطفاء، أو كأن النظام الدولي تسيره الأخلاق وليس المصالح السياسية، علما إن بعض الدول تتحمل المسؤولية عن نفاقها وريائها في هذا الأمر سواء كانت دولا عربية أو إقليمية أو دول كبرى. فوق ذلك فإن البعض ظل يتعاطى مع هذا الأمر بطريقة انتقائية كأنه يريد تحديد خريطة التدخل ومستواه وكيفيته. هكذا فإن مثل تلك المراهنة، الوهم، أدخلت الثورة السورية في حسابات واستراتيجيات خاطئة ومضرة، أكثر من قدرتها على التحمل، وأكبر من إمكانياتها، الأمر الذي أوقعها بمشكلات عديدة، دفع ثمنها السوريون باهظا، من عمرانهم واستقرارهم ومن سلامة مسار ثورتهم.

ثانيا، نجم عن التعويل على الخارج وهم أخر تمثل بالتعويل على العمل المسلح لإسقاط النظام، على حساب الثورة الشعبية، ودون تبصر بضعف إمكانيات انتهاج هذا الطريق ضد نظام مدجج بالسلاح، علما إن ذلك يعني الذهاب إلى المربع الذي يتفوق فيها النظام. بديهي إن هكذا نظام لن تنفع معه ثورة سلمية، وهذا ما ثبت من ردة فعله على المظاهرات السلمية في الأشهر الأولى، بيد إن هذا القول لا يكفي إذ للثورة المسلحة شروطها أيضا، وهي غير متوفرة، إذ ليس ثمة إطارات منظمة لذلك، ولا إمكانيات، ولا خبرات، ثم إن الثورة التي لا تستطيع تنظيم عصيان مدني، وفك علاقة مجتمعها بأجهزة النظام/الدولة لا يمكن لها التحول دفعة واحدة الى ثورة مسلحة. الأهم إن الدفع بهذا الاتجاه جرى في الأغلب من دول في الإقليم، وبوعود سخية بالدعم منها، وهو ما لم يحصل، والذي حصل تشكيل جماعات مسلحة تخضع لهذه الدول، وتشتغل وفق أجندتها، ما أضر بالثورة وبالمجتمع السوريين. طبعا هذا الكلام لا علاقة له بالتشكيلات المسلحة التي انبثقت نتيجة الانشقاق من جيش النظام ولا بجماعات الحماية المحلية في بعض القرى والأحياء، والتي فرضتها ردود الفعل، على سياسة النظام العنفية والتدميرية، وإنما يخص الجماعات التي جرى تفريخها بدعم خارجي، ووفق ترسيمات وأجندة معينة.

ثالثا، منذ البداية بدا أن ثمة تناقض في وعي النخب السورية للحركات الإسلامية المتطرفة، والعنفية، والسلفية، على غرار جماعة القاعدة وأخواتها، ففيما جرى اعتبارها، في الأغلب، كوافدة وغريبة على مجتمع السوريين، جرى التعامل معها بوصفها جزءا من الثورة (سيما جبهة النصرة)، علما إن تلك الجماعات أضرت بالثورة وبالبيئات الشعبية التي فرضت سيطرتها عليها، والاهم إنها لم تحسب نفسها على ثورة السوريين، باعتبارها ثورة ضد نظام الاستبداد والفساد، ولم ترض الانخراط في هيكليتها، وعلما إن تلك الجماعات لم تنشأ نتيجة حراكات داخلية في الجماعات الإسلامية السورية المعروفة، وان النويات الصلبة فيها هي من الوافدين من الخارج بمعونة دوائر استخباراتية للدول الفاعلة في الإقليم كل لأجندتها. وفي الواقع فإن تجربة تلك الفصائل أدت إلى إضفاء طابع طائفي على الصراع السوري، ناهيك أن تجربتها في المناطق المحررة أثبتت إنها لم تقدم نموذجا أفضل من النظام في تعاملها مع المجتمعات التي كانت تهيمن عليها.

رابعا، ثمة سؤال: ماذا لو بقيت الثورة سلمية وشعبية؟ لو بقيت الثورة السورية كذلك لكانت بالتأكيد انقطعت أو توقفت، لأن هكذا نقاط لا يسقط أو لن يسلم بالحوار أو بالمظاهرات، لكن العمل المسلح أيضا لم يسقطه، بل إن العمل المسلح أجهض الثورة، أو حولها إلى مجرد قتال عشوائي لمجموعات عشوائية من الفصائل التي تقاتلت فيما بينها أكثر مما قاتلت النظام. وباختصار فإن استمرار الثورة في بعدها الشعبي السلمي كان يمكن اعتباره بمثابة تمهيد لمرحلة، أو ثورة، قادمة، سيما إن السوريين أحسوا حريتهم ووجودهم وقوتهم، ودخلوا السياسة. أيضا لو استمرت الثورة في مسارها الطبيعي كثورة شعبية تعتمد على طاقة شعبها، وإمكانياته الذاتية، لما حصلت كل تلك الكارثة واهم تجلياتها تشريد ملايين السوريين، وتعفن كياناتهم أو ما اعتبر كياناتهم السياسية، وماكان ظهرت لا داعش ولا النصرة ولا أخواتها.

لا شيء يقيني في الثورات، لكنها تفتح أفق الحرية، بأثمان باهظة طبعا، هذا ما حصل في التجربة السورية، لكن الوفاء لتلك التجربة، وللتضحيات التي بذلت فيها، يتطلب إجراء مراجعة نقدية، شفافة ومسؤولة وشجاعة، وهو الأمر الذي يحتاجه السوريون اليوم لترميم ذاتهم، وإيجاد الاجماعات الوطنية اللازمة لاستعادة سوريتهم التي فقدوها.

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد