اتخذت إسرائيل سياسات مختلفة إزاء الصراع السوري، الذي بدأ قبل عشرة أعوام، ففي البداية ادّعت ظاهراً النأي بالنفس، لكنها فيما بعد ركزت تحركاتها على الدفع بتدمير ترسانة النظام من الأسلحة الكيماوية، وهي في السنوات القليلة الماضية نشطت أكثر في استخدام ذراعها الطويلة في قصف قواعد ومواقع وقوافل تسلح عسكرية على امتداد الخريطة السورية، مستهدفة بشكل خاص التواجد العسكري الإيراني، والميلشيات الطائفية التي تشتغل كذراع إقليمية له، وقوافل التسلُّح إلى حزب الله في لبنان. وربما قيام إسرائيل بقصف مستودعات تسلُّح في اللاذقية، مؤخراً، هو الأبرز في هذا السياق، بخاصة في دلالاته، إذ أن القصف كان هذه المرة طال منطقة تعتبر تحت حماية التواجد العسكري الروسي، أو تحت مظلة دفاعاتها الجوية، ثم أنه استهدف شحنات تسلُّح إيرانية مهمة بنوعها وحجمها.
على أية حال، وعدا عما سبق، فإن السياسة التي انتهجتها إسرائيل إزاء الصراع السوري، في كل مراحله، اتسمت بثلاثة ملامح، الأول، يتمثل بالسعي للإبقاء على حال الصراع في سوريا، أي الحؤول دون حسمه، بما يضمن بقاء نظام الأسد، باعتبار أن إسرائيل شهدت في عهده أهدأ حدود لها مع دولة عربية، وباعتبار أنه بات من الضعف بحيث لا يهددها البتة، والذي تعرفه أو اختبرته أفضل من الذي لا تعرفه ولم تختبره، وأيضا وفقاً لقاعدة أليكس فيشمان، التي تحدث فيها في بداية الصراع السوري، ومفادها: “عرب يقتلون عربا…دعوا العرب يقتلون بعضهم…” (“يديعوت أحرونوت“، 12/6/2013). والثاني، وهو يتمثل بالحؤول دون تمكين إيران في سوريا إلى الدرجة التي يمكن لها أن تهدد إسرائيل، وهذا ما يفسر الضربات الإسرائيلية التي تحدثنا عنها ضد التواجد العسكري الإيراني في سوريا، كما يفسر ذلك السماح لإيران بالتدخل في الصراع السوري، في ما يمكن تفسيره بالاستثمار الأمريكي والإسرائيلي بالدور الإيراني، بحيث تقوم إيران بالدور “الوسخ” في تخريب المشرق العربي، وتصديع بناه الدولتية والمجتمعية على أسس طائفية ومذهبية، وهو ما حصل بحيث أضحت إسرائيل أكثر أماناً من ذي قبل بعد اختفاء الجبهة الشرقية، وخراب المشرق العربي من العراق إلى سوريا ولبنان. أما الثالث، فهو حض الإدارة الأمريكية على ترك الأمور على حالها في سوريا، أي عدم التدخل عسكرياً، بمعنى ترك سوريا لتنازع الأطراف الإقليمية (إيران وتركيا) والدولية (روسيا)، بما يضعفها ويضعف سوريا، وهذا ما يفسر السياسة التي انتهجها الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، بتخليه عن ما أسماه “الخطوط الحمر”، وعن بيان جنيف (2012) ثم التوصل إلى اتفاق حول تصفية الترسانة النووية (تموز 2013)، ثم تلزيم سوريا لروسيا، وقد انتهجت إدارة ترامب ذات السياسة، وإن بتصريحات حامية، ولا يبدو أن إدارة الرئيس بايدن ستحيد عن تلك السياسة.
اقرأ أيضاً: استراتيجية إيران وجَبَهاتُها المتعدّدة في سوريا
المهم إن إسرائيل اشتغلت على صعيدين، لفرض ذاتها كمقرر في الصراع السوري، في تحولاته وتداعياته ومآلاته، الأول عبر مداخلاتها السياسية فيه، من خلال علاقاتها المتميزة مع الولايات المتحدة وروسيا، أي الدولتين الكبيرتين المتحكمتان بالصراع السوري. والثاني، عبر مداخلاتها العسكرية، أو ضرباتها المتوالية في الخريطة السورية، على مواقع للنظام أو لإيران والميلشيات التابعة لها، من دون أن تتلقى ردا رادعا من أحد. وبحسب تقرير لموقع (Airwars) البريطاني، المتخصص بالحروب الجوية، نشر قبل أيام، فإن الغارات التي شنتها القوات الجوية الإسرائيلية على سوريا قتلت ما لا يقل عن 631 من أفراد الأطراف المتحاربة في سوريا، منذ كانون الثاني/يناير 2013 وحتى تشرين الأول/نوفمبر 2021…وأن 50 في المئة من المجموعات المستهدفة كانت على الأرجح جهات عسكرية مرتبطة بإيران.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن إسرائيل هي بالفعل أحد أهم اللاعبين في الصراع السوري، وإن الوضع، أو تلك المداخلات السياسية والعسكرية، منوطة بأجندتها الخاصة، فقط، أي ليس لها علاقة بالصراع الدائر بين النظام والمعارضة، إذ أن كل الضربات الإسرائيلية (والأمريكية) تقصدت عدم توجيه ضربات يمكن أن تكسر النظام، أو يمكن ان تشكل فرقاً بالنسبة لصالح المعارضة، كما إن هذا التدخل يخدم في لجم ايران، وتحجيم نفوذها، ودرء اية مخاطر مستقبلية منها، فقط، وليس إنهاء وجودها في سوريا أو لبنان، إذ مازال الاستثمار الإسرائيلي، والأمريكي، في الدور الإيراني في المنطقة على حاله، طالما أن إيران هي التي تخدم في تقويض البني المجتمعية والدولتية في المشرق العربي، من العراق إلى لبنان مرورا بسورية.
في الغضون يفترض التذكير، مجددا، بأن إسرائيل تضرب في دمشق ولبنان والعراق، وحتى في إيران ذاتها (مفاعل نتانز واغتيال شخصيات إيرانية فاعلة)، في حين أن النظام وإيران (وروسيا) مشغولون في الضرب في إدلب وأرياف حلب وحماه، وهكذا.