الملف السوري في زحمة المشكلات الدولية العالقة

خلال الأيام القليلة الماضية، عاد الخبر السوري إلى صدارة نشرات الأخبار في كبريات وسائل الإعلام العربية والعالمية، لبعض الوقت، بعد طول تراجع في الأولوية ومساحة المتابعة. لم تكن تلك العودة لا من باب الحراك السياسي والدبلوماسي في شأن التسوية، ولا نتيجة تطوّرات ميدانية على جبهات القتال، ولا حتّى الكارثة الإنسانية المستمرّة في مخيمات اللجوء والنزوح، داخل سوريا وخارجها، فهي قد باتت مشهداً “مألوفاً” لا يشكّل خبراً.

هذه المرّة تصدّرت سوريا نشرات الأخبار من بوّابة العدالة، وذلك عبر الاهتمام الإعلامي الكبير الذي حازته جلسة النطق بالحكم، على العقيد أنور رسلان، ضابط المخابرات السوري السابق، في الجلسة الأخيرة من محاكمته التي امتد قرابة عامين أمام المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز الألمانية، حول تورّطه في جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وقعت خلال خدمته في أحد أفرع المخابرات الأسدية. والأمر نفسه تكرر بعد الحكم على رسلان بأيام فقط، عند تغطية الجلسة الافتتاحية في محاكمة الطبيب السوري علاء موسى، أيضاً أمام القضاء الألماني في مدينة فرانكفورت، بتهم تعذيب وقتل معتقلين أثناء عمله في المشافي العسكرية والمدنية التابعة لنظام الأسد، قبل انتقاله إلى ألمانيا.

اقرأ أيضاً: المعارضة القاصرة وتضييع قضية الشعب السوري

ما من شكّ في أهمّية المواكبة الإعلامية الواسعة المشار إليها، فالمحاكمات التي جرت وتجري أمام القضاء الألماني، وعلى الرغم من أنّها ليست أكثر من خطوة أولى بسيطة على مسار العدالة الطويل في سوريا، إلا أنّها تشكّل خطوة تأسيسية هامّة وعلامة فارقة من الممكن أن يبنى عليها الكثير في قادم الأيام، ليس على الصعيد القانوني فقط وإنما السياسي أيضاً، وفق ما أكّد خبراء ومتحدّثون كثيرون في هذا الشأن. لكن اللافت أن هول الجرائم التي تجري المحاكمات للنظر فيها، وهي فظائع ما زالت مستمرّة مع استمرار النظام، لم تكن سوى “مناسبة” استثنائية ذكّرت العالم لبعض الوقت بسوريا ونظامها الإبادي، وما أن انتهت التغطية، وفرغ المراسلون والصحفيون والمحلّلون من تقاريرهم ومقالاتهم وحواراتهم، حتى عادت الأمور إلى سابق عهدها، من حيث هامشية الحدث السوري، وتراجع ترتيبه على سلّم أولويات وسائل الإعلام.

في مقاربة هذه المسألة سيكون من المفيد التذكير بأنها لا تتعلّق بالسياسات الإعلامية وما تفرضه متابعة الأحداث والأخبار الجديدة و”العاجلة” يومياً وعلى مدار الساعة، بقدر ما ترتبط بحقيقة موقع الملف السوري في المشهد العام، إقليمياً ودولياً. وقد أشرنا غير مرّة إلى أنّ المبالغة في تقدير أهمّية سوريا وموقعها الإستراتيجي ومركزيتها في السياسات الدولية، ليست إلا وهماً تشرّبه السوريون على مدى عقود من الإعلام الموجّه لغايات أيديولوجية وسلطوية، حتى بلغ الظنّ بأكثرهم أنّ هذا الأمر من ثوابت التاريخ وطبيعة الأشياء. صحيح أن الشرق الأوسط، ومن ضمنه سوريا، كان من أولويات القوى العالمية الكبرى، في سياق صراعها من أجل السيطرة على النفوذ في المنطقة، لا سيما خلال الحرب الباردة. لكنّ هذا أصبح من الماضي، فالعالم تغيّر إلى حدّ كبير، وتغيّرت معه المحدّدات الإستراتيجية التي تُرسَم في ضوئها السياسات الدولية ومرتكزاتها.

ما سبق بيانه من تراجع أهمية المنطقة النسبي والواضح ضمن استراتيجيات “الكبار”، هو مما يمكن عدّه أحد العوامل الرئيسة التي أرخت بظلالها على مدى جدّيتهم في التوصّل إلى تسوية سياسية للملف السوري، أيّاً كان شكلها، كما كان قبل ذلك من بين أسباب حرصهم على تحجيم إمكانات “الحسم العسكري” في سوريا. ومن ناحية ثانية، ثمة اليوم ما يكفي من الأزمات الدولية والمشكلات العالقة، في هذه المنطقة وغيرها، بين مختلف الأطراف الخارجية الفاعلة في الشأن السوري، تأتي في مقدّمتها الأزمة المتصاعدة في أوكرانيا، وأشباح الحرب المحتملة التي تلوح في شرق أوروبا، فضلاً عن الملفّ النووي الإيراني وإشكالياته المزمنة. يُضاف إليها تطوّرٌ غير مسبوق شهده ملفّ الصراع الدائر في اليمن، بعد أن قام الحوثيون بهجومٍ استهدف العاصمة الإماراتية أبو ظبي، للمرّة الأولى خلال الحرب المستمرة منذ سبع سنوات، مستخدمين صواريخ بعيدة المدى وطائرات من دون طيّار، رداً على خسارتهم بعض المناطق الاستراتيجية، أمام تقدّم وحدات من القوات اليمنية الحكومية التي تتلقى دعماً إماراتياً.

يبدو واضحاً أنّ كلّ ملفّ من هذه الملفّات وغيرها، يبلغ من التداخل والتعقيد درجةً يصعب معها التوصّل إلى حلول ترضي الخصوم وتفضي إلى إيجاد توازنٍ ما بين مصالحهم المتعارضة، ولا شكّ أنّها تؤثّر وتتأثّر بعضها ببعضها الآخر، إلى هذه الدرجة أو تلك، بصورة تجعل “إدارة الأزمات” وليس حلّها، عنواناً للمرحلة الراهنة من تاريخ العلاقات الدولية.

على هذا النحو، ربما يمكن فهم كيفية تضاؤل الاهتمام بالقضية السورية في زحمة المشكلات والأزمات المتشابكة. غنيّ عن البيان، أنّ نظام الأسد يدرك هذه المعطيات ويستثمر الوقت في ضوئها أكثر من أي طرف آخر، لذا تراه يواصل التصرّف بعقلية المنتصر في الحرب، ممعناً في إذلال الشعب السوري ونهب ما تبقّى من خيرات سوريا ومقدّراتها، فيما العالم منشغلٌ في أزمة تلو الأخرى.

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد