ربما كانت الرئاسة مشكلة معظم الأنظمة الشمولية في العالم وخاصة في منطقتنا التي تختزن إرثاً متراكماً عبر مئات السنين لحكم الأمير والملك والزعيم والرئيس والقائد وسلطاتهم المطلقة وامتيازاتهم اللا محدودة التي دفعت كثير من المغامرين للانقلاب والجلوس على ذلك الكرسي الذهبي، كما حصل في معظم بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية منذ أكثر من نصف قرن، ومن ضمنها العراق الذي حطم الكرسي الملكي ليضع كرسياً للجمهورية في تموز 1958 بانقلاب عسكري دموي، نصب فيه مجلساً للسيادة ورئيساً متفرداً للوزراء يقوم مقام الملك مطلق الصلاحيات بزي جمهوري وشعارات تقدمية، ما لبث بعد خمس سنوات حتى أطاح به مغامرون آخرون من رفاقه ليتم تنصيب (الرئيس المؤمن) هذه المرة، والذي لم يهنأ هو وشقيقه كثيراً بالحكم، إذ استولى مغامرون آخرون في انقلاب ليلي على الرئيس ونفيه الى خارج العراق لأجلاس جنرال عسكري آخر على كرسي الحلاق الذهبي.
هذا الكرسي انفرد في الجلوس عليه دونما منازع نائب الجنرال البكر الذي كان يمارس دوره الأوحد حتى وهو نائباً ثم قائداً للضرورة ورئيسا مطلق الصلاحيات حتى أسقطته الولايات المتحدة واعدمته محكمة عراقية تم تأسيسها لمحاكمة اركان رئاسة صدام حسين، ولتنتهي واحدة من حقب الرئاسة العراقية المثيرة وينتهي معها ذلك المنصب إلى مجرد موظف تشريفي بروتوكولي في نظام برلماني يعتمد رئيس الوزراء بصلاحيات اوسع.
اقرأ أيضاً: بكر صدقي وخريطة كردستان الكبرى
وبسبب ذلك الإرث الثقيل لمنصب الرئاسة ومن يشغله وما تركه من آثار نفسية سلبية لدى المجتمع السياسي وغير السياسي، عمل مؤسسي النظام الجديد على تقليص صلاحياته وتكثيفها بيد رئيس الوزراء الذي ترشحه الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي، ولكي تُدعم العملية السياسية بين مكونات العراق الرئيسية وهي الكورد والشيعة والسنة العرب، فقد وضعوا عرفاً سياسياً مفاده توزيع الرئاسات على تلك المكونات على الشكل الآتي: منصب رئيس الوزراء للشيعة على اعتبار أنهم الأكثرية من السكان، ومنصب رئيس الجمهورية للكورد على اعتبار اقصائهم تاريخياً عن هكذا مناصب منذ تأسيس المملكة العراقية، ومنصب رئاسة البرلمان للسنة من عرب العراق، وفي ذات الوقت أي في 2005 توافق الكورد أيضاً على أن يكون رئيس الجمهورية للاتحاد الوطني مقابل أن يكون رئيس الإقليم من الديمقراطي الكوردستاني، وبوفاة الرئيس طلباني واعتذار الرئيس بارزاني عن تمديد رئاسته أو الترشح لها من جديد، يعتقد الديمقراطي أن ذلك التوافق انتهى ويجب أن لا يكون المنصب حكراً لحزب معين تحت أي مبرر، بل أن الديمقراطي طلب من الاتحاد ترشيح أي شخصية اخرى من قياداته تنال رضا الديمقراطي وبقية الأحزاب ليكون مرشح المكون، لكنهم اصروا على ترشيح السيد برهم صالح (الذي سبق وأن اعترض عليه الديمقراطي في انتخابات 2018 وتم فرضه من قبل نواب الشيعة والسنة دون موافقة المكون الكوردي)، مما اضطر الديمقراطي إلى ترشيح منافساً له هو السيد هوشيار زيباري وزير الخارجية والمالية السابق، وحينما شعر الطرف الثاني أي الاطار التنسيقي بحتمية فوز السيد زيباري تعقدت الأمور أكثر خاصة دخول إيران على الخط من خلال مشاركة السفير الأيراني والقوى الشيعية المنافسة للتيار الصدري بالضغط على المحكمة ورفض ترشح السيد زيباري بقرار وصِف بانه ظالم وسياسي، مما دفع الحزب الديمقراطي إلى تقديم مرشح آخر هو وزير الداخلية في حكومة الاقليم، والذي تم ترشيحه في المرحلة الثانية التي اعترض عليها البعض وطعنوا في شرعيتها.
وهكذا أصبح فريقا الصراع؛ الشيعي حول السلطة والكوردي لكسر الإرادة، أحد أهم أسباب توقف أو انسداد العملية السياسية، وواضح جداً أن الإطار يضغط باتجاه عدم نجاح عملية انتخاب الرئيس إلا بمشاركته في الحكومة التي يصر التحالف الثلاثي على تشكيلها تحت شعار حكومة الأغلبية الوطنية المرفوضة من قبل الاطار ومن الاتحاد لكونهما سيخسران مواقعا تمتعوا بامتيازاتها ومكاسبها طيلة ما يقرب من عقدين من الزمان، وربما أيضا الخشية من فتح ملفات الفساد الكبيرة التي تضم عشرات المليارات والصفقات المريبة.
والغريب أنهم جميعا أرادوا أضعاف وظيفة رئيس الجمهورية وتقليص صلاحياتها، لكنهم اكتشفوا أنها رغم ذلك مفتاح لتسمية رئيس الوزراء الأقوى في البلاد والأمضى في رفض أو الموافقة على كثير من القوانين والمشاريع والأحكام.