خروج العرب من التاريخ وإخفاق الدولة والمواطنة والحداثة في العالم العربي

يكابد العالم العربي مشكلات عديدة وعميقة تطال بناه ومساراته وأحواله السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية، ضمنها انكشافه وهشاشته إزاء التدخلات الخارجية، ناهيك عن تفرق أحواله، بيد أن أهم ما يكابده نقصين: تمكين الدولة، وتمكين المواطنة، لافتقاده للدولة بمعنى الكلمة، كدولة مؤسسات وقانون، لصالح تغول السلطة بعلاقاتها وبناها، ولافتقاده مكانة المواطن، ومفهوم حقوق المواطن في الدستور، ولعل هذا مكمن العطب فيه، أو مصدر إخفاقاته الأساس، وهو مكمن افتقاده للحصانة إزاء الفاعلين الدوليين والإقليميين، ومكمن افتقاده للفاعلية التي تتناسب مع حجمه وإمكانياته.

وكان الأكاديمي المصري فوزي منصور أصدر، قبل قرابة ثلاثة عقود، كتابا بعنوان معبر وقاسي ومؤلم، هو: “خروج العرب من التاريخ” (1993)، لكنه كان يصف أو يحلل الواقع السائد. أيضا كان الروائي الراحل عبد الرحمن منيف أصدر قبله خماسيته الروائية: “مدن الملح” (1984). وربما أن العنوانين يلخصان الانهيارات في العالم العربي، لا سيما في منطقة المشرق من لبنان الى العراق وصولاً الى اليمن، وقبل قرابة عقدين نشر برهان غليون، الأكاديمي السوري، كتابا عنوانه: “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة” (2003)، في حين صدر للأكاديمي الكويتي، قبله، كتاب: “الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر” (1991)، والكتابات يتحدثان عن واقع الأنظمة التسلطية والاستبدادية في العالم العربية. أيضا، شهدنا في الألفية الجديدة صدور تقارير “التنمية الإنسانية العربية”، كتقارير دورية عن الأمم المتحدة، تم التحذير فيها من نواقص أساسية يعاني منها العالم العربي، وضمنها: نقض الحرية ونقص تمكين المرأة ونقص المعرفة ونقص التنمية، وثمة إصدارات عديدة في هذا المجال؛ وطبعا الحديث يطول عن إصدارات أخرى كثيرة، لمراكز أبحاث وجامعات ودور نشر ومجلات دورية متخصصة.

اقرأ أيضاً: متى يعود المهجرون إلى عاصمة الشتات “مخيم اليرموك”؟

القصد هنا التنويه إلى النقص الفادح في تحديد، أو تعريف، النواقص التي يكابد منها الدولة والمجتمع في العالم العربي، وهي المتمثلة، كما قدمت، في نقص الدولة ونقص المواطنة، وهنا مكمن الاستعصاء في التطور، أو هنا مصدر تأزم الدولة والمواطنة والحداثة، اللازمة للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

والحال، فإن هذا الاستعصاء، وتاليا التأزم، هو الذي أدى إلى انفجار عديد من البلدان العربية، وبالطريقة العنيفة التي شهدناها، على تفاوتها، لاستحالة التغيير أو الإصلاح، بالوسائل الديمقراطية لأنها غير موجودة أصلا، واستحالة ذلك بالطرق التدرجية البطيئة، لأن حال التسلط، المندمجة بالفساد والإفساد، وتبديد الثروات تؤدي إلى مزيد من التدهور.

يستنتج مما تقدم أن الأنظمة السائدة هي السبب الأساسي لثورات الربيع العربي، بموجتيه الأولى والثانية (2010 التي اندلعت في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، ثم في 2019 في السودان والجزائر ولبنان والعراق). 

بيد أن طريق الثورات لم يصل إلى مبتغاه، إذ أن الأنظمة واجهته بعنف شديد، أو عملت على استيعابه ثم الانقلاب عليه، وفي حالات أخر صاحب العنف المدمر أخذ الصراع إلى حرب أهلية، أو هوياتية، أو طائفية، أو كخليط من كل ذلك.

في الغضون شهدنا، في العقد الماضي، تزايد التنظيرات التي تتحدث عن عدم أهلية المجتمعات العربية للديمقراطية، بل والحط من قيمة الديمقراطية، أو مكانتها في التطور، من قبل مثقفين من المحسوبين على تيارات يسارية أو قومية أو ليبرالية أو إسلامية. اللافت، أن هؤلاء بدل أن يلوموا الأنظمة والقوى التي انقضّت على الربيع العربي، إذا بهم يلومون الحراكات الشعبية، أو يلومون مجتمعاتهم، محمّلين إياها مسؤولية ما حصل، كأن الشيء الطبيعي أن يستكين الناس في هذه المجتمعات لواقع الحرمان والامتهان، وضمنه افتقاد المواطنة، أو كأن من الطبيعي أن تدافع الأنظمة الاستبدادية عن ذاتها بكل الوسائل الوحشية!

وطبعا لا يطرح هؤلاء التساؤل عن دور الأنظمة الرجعي في سد آفاق التطور في مجتمعات ودول العالم العربي، مع هيمنتها، منذ سبعة عقود أو منذ نصف قرن، على وسائل الإعلام والتعليم والجامعات وكل وسائل الضبط والتعبير. فإذا كانت هي ليست مسؤولة عن هذا الواقع المتردي، فمن هو المسؤول إذاً؟ وكم نصف قرن يفترض أن ننتظر حتى تصبح المجتمعات مؤهلة للحريات ولآليات الديموقراطية؟ وأيضاً، إذا كانت تلك الأنظمة لا تعترف بالمكانة القانونية والحقوقية للمواطنين، وتصادر الحريات، وتحرم السياسة، وتحول الديموقراطية الى انتخابات، والانتخابات الى استفتاءات، فكيف سيتم تأهيل تلك لمجتمعات للديموقراطية؟ وأخيراً، من المسؤول عن تقوض الدولة لحساب السلطة وعن بقاء المجتمعات عند حيّز الانتماءات القبلية، العشائرية والطائفية والمذهبية والإثنية؟

 الجدال هنا طبعا لا يتعلق بأن الديموقراطية في تمثلاتها المختلفة ليست الوصفة المثالية، إذ “الجمهورية الفاضلة لم تأت بعد، أو هي متخيلة، ولا أحد ينكر أن ثمة إشكاليات كثيرة تكتنف تطبيقات الديموقراطية، في هذا البلد أو ذاك، لا سيما أنها ليست أيديولوجية، على ما يعتقد البعض، وإنما طريقة في تنظيم الحكم، والعلاقة بين الحكومات والمجتمعات، وإدارة الخلافات والاختلافات، وهي تخضع لأحوال المجتمعات ومستوى تطورها السياسي والثقافي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي، ما يفسر تفاوتاتها بين بلد وآخر.

والمعنى أن المشكلة ستظلّ قائمة، وستظل الديمقراطية مطلبا مشروعا وعادلا، لكنها أي الديموقراطية الليبرالية، أي المقترنة بحقوق المواطن، وبالحرية، هي الشكل الأنجع، الذي توصلت إليه البشرية، لإدارة الحكم والمجتمعات والعلاقة بين المواطنين، حتى الآن.

قصارى القول، فإن المثقفين الذين ينكرون الديموقراطية على شعوبهم، ويتنكرون لها، ليست لديهم وصفة بديلة، سوى تأبيد الواقع الراهن، أي تأبيد نظم الاستبداد، مهما كان لونها، وهم عندما يقولون إن المجتمعات غير مؤهلة للحرية والديموقراطية فإنما هم يمنحون كل الحرية للأنظمة السائدة كي تبقي شعوبها على ما هي عليه. وبكلام أخر، فهم يتحدثون كأن ثمة فائض حرية وديموقراطية، في بلداننا، وهو ادعاء يشي باستقالة العقل، وتغييب الضمير، وتزوير الواقع والتاريخ.

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد