عن أردوغان وفلسطين والشعبوية الرخيصة

منذ أواسط القرن الماضي وحتى يوم الناس هذا، شكّلت القضيّة الفلسطينية أحد العناصر الثابتة الأبرز في العدّة الأيديولوجية والدعائية لدى كثير من حكّام بلدان الشرق الأوسط، على اختلاف أنظمة الحكم فيها، وبصرف النظر عن قربها أو بعدها الجغرافي عن أرض فلسطين. يستوي في هذا استثمارُ الشعار الفلسطيني باسم العروبة والقومية العربية، كحال جمال عبد الناصر في أيامه، ونظامي البعث في سوريا وعراق صدّام، أو تحت غطاء الدين والأمة الإسلامية، وهو ما تفعله إيران الخمينية، وامتدادها اللبناني “حزب الله”. وبات من السهل على أي مستبدّ، “عريقٍ” أو “ناشئ”، دغدغة عواطف مئات ملايين العرب والمسلمين وتحريك مشاعرهم، لمجرّد أنّه يزخرف خطاباته الشعبوية بكلمات سحرية، من مثل: فلسطين، القدس، المسجد الأقصى، حتى وإن كانت ممارساته وسياساته على النقيض من مصلحة الفلسطينيين وقضيّتهم، لا بل وتخدم مصالح عدوّهم التاريخي الذي يحتلّ أراضيهم.

لم يخرج الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان عن تلك الوصفة الشعبوية المجرّبة وغير المكلفة، منذ تصدّره المشهد السياسي في بلاده قبل عشرين عاماً، إذ تكرّرت المواقف التي يطلق فيها أشدّ التصريحات النارية تجاه إسرائيل، ليحظى بمزيدٍ من الأنصار والمعجبين الواهمين، بالتوازي مع سعيه الدؤوب لتوطيد علاقات بلاده معها في شتى المجالات، العسكرية والاقتصادية وغيرها، مجسّداً ضروباً من النفاق السياسي المكشوف. صحيح أن ّبعض السُحب العابرة لبّدت، ظاهرياً على الأقل، سماء علاقات أنقرة وتل أبيب لبعض الوقت، في أكثر من مناسبة خلال العهد الأردوغاني، لكنّ ذلك لم يكن ليغيّر من الحقائق والأرقام، التي تشير إلى أنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين تضاعف مراراً، منذ وصول أردوغان وحزبه “حزب العدالة والتنمية”، إلى السلطة عام 2002.

اقرأ أيضاً: نقاش في أسباب الاستعصاء السوري

في خطاباته وتصريحاته، سواء أثناء المناسبات المحلّية أمام مواطنيه الأتراك، أو في اللقاءات الدبلوماسية والمحافل الدولية، كثيراً ما أكّد الرئيس “الطيّب” على دعم الحق الفلسطيني، وعبّر عن “الحزن والغضب” الذي يعتريه من أجل القدس، دون أن ينسى توجيه أقسى العبارات للسياسات الإسرائيلية، حيث وصفها بالوحشية واللا أخلاقية، كما وصف الدولة العبرية نفسها بأنها “دولة إرهاب”. لكن يبقى “الحكي ببلاش”، كما يُقال بالعامّية السورية.

خلال الأيام الماضية، شهدت الأراضي الفسلطينية توتّرات ومصادمات في مناطق متفرّقة، حيث سقط فلسطينيون قتلى وجرحى برصاص القوات الإسرائيلية، وأصيب عشرات آخرون بحالات اختناق بالغاز المسيل للدموع، إثر مواجهات وقعت في بلدة برقة قرب نابلس في شمال الضفة الغربية، وفي مخيم العروب قرب مدينة الخليل جنوب الضفة. وبحسب مصادر صحافية متقاطعة, اندلعت المواجهات بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال، خلال تشييع بعض من سقطوا برصاص الاحتلال في وقت سابق. وبينما ينشغل الفلسطينيون في تشييع شهدائهم ومعالجة جرحاهم، كان أردوغان يستقبل بحفاوةٍ بالغة نظيره الإسرائيلي “إسحق هرتسوغ”، الذي زار تركيا تلبيةً لدعوة رسمية، وقد أعلن أردوغان أثناء الزيارة عن سعي بلاده إلى رفع إجمالي قيمة التبادل التجاري مع إسرائيل، ليبلغ 10  مليار دولار.

هذا التلوّن الأردوغاني في الموضوع الفلسطيني، كثيراً ما شكّل إحراجاً لعشّاقه الإسلاميين، ومنهم الإخوان المسلمون الذين يزعمون أنّ القدس وفلسطين أقدس قضاياهم، فهم لا يخفون غرامهم بـ”الطيب” وافتخارهم به، إذ تجمعهم وشائج أيديولوجية ضمن فضاء “الإسلامي السياسي”، فضلاً عن منافع متبادلة ليست بالقليلة. هكذا، صدر بيان رسميّ عن جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، والمعروفة باسم “حركة المقاومة الإسلامية – حماس”، في 9 آذار (مارس)، أي أثناء زيارة الرئيس الإسرائيلي لتركيا، أعلنت فيه رفضها للتواصل مع “الكيان الصهيوني المحتل”، وأنها “تتابع بقلق بالغ” زيارات مسؤوليه وقادته لعدد من الدّول العربية والإسلامية، وآخرها زيارات “هرتسوغ” لعددٍ من دول المنطقة، دون أن تسمّي هذه الدو، في ما بدا تجنّباً للإحراج. وعبّرت الحركة عن الأسف “من تلك الزيارات لأشقائنا في الدّول العربية والإسلامية، التي نعدّها عمقاً استراتيجياً لشعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة”. كما جدّدت رفضها المبدئي لكافة أشكال التواصل “مع عدوّنا الذي ينتهك حرماتنا، ويدنّس ويهوّد القدس والأقصى، ويواصل حصاره وعدوانه على أهلنا في قطاع غزَّة، ويواصل اعتقال الآلاف من الأسرى، ويقتل أطفالنا، ويهدم بيوتنا، ويشرّد شعبنا”، حسب نصّ البيان. فهل يصدّق هؤلاء وأمثالهم ادّعائات أردوغان حقاً، أم أنهم لا يريدون الإقرار بزيفها؟

غاية القول، أن الآوان قد حان للكفّ عن تصديق المتسلّطين والمتسلطنين، أو تلميع صورتهم لمجرّد ترديدهم الشعبوي المجّاني لشعارات محقّة، على نحو يفعل أردوغان وجيرانه من أهل “المقاومة والممانعة” في سوريا وإيران. هذا الاستغلال الرخيص لرمزية فلسطين وقضيتها، يعبّر عن انتهازية تقوم على استثارة الغرائز والعواطف، لجذب الجمهور وإسماعه كلاماً يطربه ويرضيه، بعيداً عن الحقائق وما يجري على أرض الواقع. فتقييم القادة والسياسيين يكون استناداً إلى ما يصدر عنهم من سياسات وأفعال، لا ما يطلقونه من الشعارات ومعسول الكلام.

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد