التمزيق المجتمعي في العراق !

يعتقد الكثير من شبيبة اليوم خاصة أولئك الذين شهدوا ما سمي بالربيع العربي، وقبله في العراق حينما ازاحت الولايات المتحدة نظام الرئيس صدام حسين وحزبه عن دفة الحكم، وما تلى ذلك في كل من سوريا واليمن وليبيا وكثير من بلدان الشرق الاوسط ذات التعددية القومية والدينية والمذهبية، بأن ما حصل في تلك البلدان من ازدياد وتيرة العنصرية والطائفية وما يصحاحبهما من اقصاء عرقي وقومي بشكل مفرط، هو وليد هذه المرحلة أي مرحلة ما بعد تولي معارضي تلك الانظمة دفة الحكم، وخاصة الأحزاب الدينية أو المذهبية، التي عاشت وترعرعت في ظل وكنف مجموعة من المدارس والمعتقدات السياسية ومنهاجها المعروفة، خاصة في العراق ابتداءً من مدرسة الزعيم ومقاومته الشعبية مرورا بمدرسة البعث وحرسه القومي وجيشه الشعبي، وانتهاءً بما أنتجته تلك المدارس من تجارب يتم استنساخها اليوم، بل والإبداع في تطوير أساليبها بمختلف المناهج وممارسات أنظمتها السياسية والقمعية، تلك المدارس التي كرست مفاهيم السلطة الفردية والحزب الواحد وطرق هيمنته واندساسه في كل مفاصل الدولة وزراعة العيون والآذان في كل دائرة ومدرسة ووحدة عسكرية على طريقة جمهورية جورج اورويل في روايته (1984) حتى غدت الدولة برمتها عبارة عن منظومة كاميرات للمراقبة والتصنت.*

هذه المدارس والغيوم السوداء التي سادت منطقة الشرق الاوسط وخاصة الكيانات والدول متعددة المكونات الدينية والقومية مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان وتركيا وايران ودول شمال افريقيا، حيث سادت ثقافة الاقصاء والتهميش بل والانتقاص من تلك المكونات، ففي سوريا والعراق أشاعت معظم الانظمة السياسية ومفاصلها المتنفذة ثقافة اقصائية وازدرائية ضد مكونات دينية ومذهبية وعرقية وبأشكال مختلفة ووسائل متعددة، باستثناء فترة قصيرة جداً من الحكم الملكي العراقي، وتحديداً في السنوات الأولى لتأسيس المملكة العراقية، والى حدٍ ما فترة أقصر من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم او نور الدين الاتاسي، وما عداها ومنذ انقلب البعثيون وحلفائهم على النظامين في كل من دمشق وبغداد، حكم البعثيون البلاد منذ شباط 1963 في العراق وحتى إسقاط هيكل حكمهم في نيسان 2003، مع وجود فترة قلقلة بين 1963 و 1968 التي انقلب فيها العوارف على الحرس القومي، لكنهم لم يختلفوا في نهجهم السياسي عما سبقهم إلا بالعناوين والأسماء.

اقرأ أيضاً: فيما يخص مفاهيم الجماهير أو الشعبوية

لقد مورست ضد المكونات (الأصغر) سواءً كانت قومية أو دينية مذهبية كل أنواع الاضطهاد حيث التغيير الديموغرافي وسياسة التعريب في العديد من المدن والقرى الكوردية في كوردستان العراق، وما ماثللها في سوريا حيث الاحزمة العنصرية واسقاط الجنسية عن مئات الالاف من الكورد السوريين، ناهيك عن الإقصاء والانتقاص باستخدام وسائل دعائية اجتماعية، تزدري تلك المكونات بفيض من النكات والطرائف التي تظهرها بشكلٍ ساخر أو منتقص، وتشكك في أهليتها، بل وتهينها في نهجها الديني أو انتمائها العرقي وحتى الاجتماعي، ونتذكر جميعا طوفانات النكات والقصص أو الطرائف المفبركة التي كانت أجهزة المخابرات وبعض المؤسسات تقوم بنسجها وإشاعتها للتداول بين الأهالي، وليس ببعيد عن الذاكرة تلك التي كانت تستهدف جنوباً (الشروك والمعدان) وازدرائهم وإظهارهم بأنهم أُناس بدائيون وأجلاف، وشمالاً الكورد والتركمان والمسيحيين عموما، الذين ينتقصون في آدميتهم ومواطنتهم بأنماط من القصص والنكات المفبركة، التي تظهرهم أغبياء وحمقى، وكذا الحال غرباً مع (الدليم والمصالوة) كما كانوا يقولونها، وإظهارهم بالبخل والحماقة والتخلف.!

في حصيلة سنوات طويلة من ممارسة هذا الكم الهائل لثقافة الانتقاص والاستهزاء، تكلست أنماط من الكراهية والازدراء بين مفاصل اجتماعية واسعة من المكونات، التي تعرضت جميعها إلى هذا النمط من التسقيط والاستصغار، سواء بين الكورد والعرب، أو بين السنة والشيعة، وبقية المكونات، ناهيك عن عقدة ابن المدينة من الريفي أو (الجرياوي أو الكوندي بالكوردية) واعتباره دوما منتقص المدنية ومحط السخرية، مما أنتج مع وجود بيئة صالحة لتفعيل هذه الأحاسيس المليئة بالكراهية، ما نشهده اليوم من طائفية وعنصرية مذهبية وقومية وحتى مناطقية، وصلت إلى حد الإقصاء والالغاء والتكفير ومن ثم إباحة القتل والابادة، تصل في ذروتها الى دعوات لحرب مقدسة.

وما يجري اليوم من عمليات تغيير ديموغرافي في المناطق المختلطة عمل على إحداث تمزيق شديد في البنية المجتمعية للسكان، مما ينذر بخطر داهم يضعنا جميعاً أمام مسؤولية تاريخية ووطنية إزاء حرب ستحرق الأخضر واليابس، ولن تكون نتائجها أفضل من تلك النتائج التي وصل إليها البعثيون وغيرهم في تحويل العراق إلى حفنة تراب، وضياع فرص ذهبية لتقدمه وتطوره ووجوده.

   وصدق من قال هذا المطر من ذاك الغيم!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رواية 1984 التي كتبها الصحفي البريطاني جورج اورويل George Orwell في عام 1949م.

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد