لا اعتقد أن أحداً نجح بقدر أردوغان في الاستفادة المُثلى من الكوارث التي لحقت بالآخرين في السنوات العشرين الأخيرة.. ولعل هذه واحدة من سمات الانتهازية في العلاقات بين الدول، لولا أن أردوغان شانه شأن أسوأ الانظمة الشمولية يسعى إلى إشعال فتيل الأزمات وينفخ فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً وعندما ينتهي من استنفاذها كأوراق صالحة للعب يهملها، لا بل قد يلعب دور حمامة السلام والبريء الأمين الذي يسعى إلى حقن الدماء كما تروج له البروغاندا الأردوغانية وأزلامه من الأخوان المسلمين والمرتزقة من المعارضة السورية وأشباههم ومن دار في فلكهم.
اليوم أردوغان يسيل لعابه إزاء الحرب الروسية على أوكرانيا، ويلعب على الوترين ويستميت ألا يخسر الرضا الأمريكي والدعم الأوربي وهو الممسك بورقة اللاجئين السوريين الذي ظل يُهدد بها أوربا طيلة عشرة سنوات متواصلة فكانت آلام السوريين وتشردهم ورقة مباشرة وفجة ورابحة في الإعلام الإردوغاني قبل أن تكون على طاولة المعاملات الاقتصادية، لذلك سيكون مفهوماً لماذا بادر إلى بناء المخيمات على طول الحدود التركية السورية قبل أن يكون هناك لاجئ سوري واحد، وتحديداً في أوائل مايو- آيار من العام 2011 وكان أكبرها المخيمات المواجهة لمدينة سري كانيه (رأس العين)، إضافة لخطاباته المشحونة بالدموع وهو يُشبّه نفسه وجماعته بأنصار المدينة الذين يستقبلون المهاجرين القادمين من المكة السورية.
اقرأ ايضاً: ائتلاف اسطنبول وسيرة الفشل المتجدّد
ناهيك عن ظنه أن الفرصة ذهبية للاحتفاظ بالشمال السوري (والتمدد فيه) الذي بات تركياً من الدرجة العاشرة، فالفصائل الإرهابية المتحمكمة برقاب السوريين ولائها أردوغاني وهو الذي أشرف على تمويلهم وشحنهم وأدلجتهم كمتطرفين ومرتزقة وطائفيين، لذلك سيكون من المجدي لأردوغان المساهمة في إشغال العالم ولو لوقت بالخطر البوتيني على العالم، ومن ثم أزمة عودة اللاجئين وإعادة البناء والمفاوضات حول مستقبل أوكرانيا المؤهلة بشدة لتكون ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وإن سكنت المدافع والطائرات والراجمات ولم تصل للمستوى النووي المرعب فإن أقل الخسائر العالمية ستكون حرباً باردة طويلة الأمد وأسواقا جديدة لأردوغان لدخول المفاوضات الإقتصادية للقواعد العسكرية والمضائق البحرية وضبط اللاجئين (سجنهم وتحجيم حركتهم) أو إطلاقهم على الحدود الأوربية، وكالعادة في السياسة شيء مقابل شيء سيكون مستقبل شمال سوريا باكمله مجرد ورقة لن تُلعب في القريب العاجل لصالح السوريين.
وفي لعبة التوازنات التي تتناقص كلياً مع التصريحات التي يرقص لها طرباً شطراً من الجمهور السوري والعربي لن يتخلى أردوغان عن التبادل الإقتصادي (الأكبر في المنطقة) مع إسرائيل- رغم تزعمه الإعلامي لما سمّاه فك الحصار عن غزة بدءً من العام 2007 وصولاً لاسطول الحرية عام 2010 إلا أن علاقته الوثيقة بإسرائيل استعادت ألقها وعززت سوقها التجاري والعسكري وتُوجت بزيارة الرئيس الإسرائيلي إلى أنقرة بدعوة رسمية من أردوغان الذي يُحقق بهذا ترطيباً إضافياً في الأجواء مع أمريكا ويُعزز التبادل الإقتصادي مع إسرائيل في الوقت نفسه، مع استفادة قصوى من قوة إسرائيل في كل من موسكو وكييف لتعزيز الدور التركي والتأكيد أنه ليس خارج القطيع الأوروأمريكي – ولن يخسر بطبيعة الحال السوق الإيراني ولا غزارة نفطه وسيمد اليد حيناً للخليج ويعضه تارة أخرى، وهو الضامن للغاز القطري ولجزيرتها الإعلامية، ووهو القادر كالولي الفقيه على إعادة تدوير القدس وفلسطين كقبلة لجمهور كبير في العالم العربي ونسبياً في العالم الاسلامي ليتطوع كورقة في يد السلطان أردوغان يرميها في أقرب سلة مهملات عندما يفتقد الحاجة إليها ولا تصلح حتى لإعادة التدوير، فنظامه قائم على الأسلمة في الواجهة والفاشية الطورانية في الجوهر.
فوحدها تركيا لم تنضم إلى دول الناتو في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وهي اليوم تحاول أن تظهر للعالم أن وقوفها في المنتصف سيكون لصالح السلم العالمي، لا بل أنها بدأت بالفعل (وبرغبة من يوتين نفسه) بمحاولة ما تُسميه الخارجية التركية وقف الحرب، وبذلك تكون تركيا بوابة خلفية لإدارة الإزمة العالمية الجديدة التي خلقها بوتين وغامر فيها بحاضر ومستقبل البشرية بالكامل، ومن خلال هذه المحاولة التي أرضى أردوغان بها بوتين بعدم إغلاق مضيقي الدرنيل والبوسفور في وجه السفن الروسية، واكتفت بالرجاء من الكرملين بعدم قيام روسيا بإرسال طلبات لمرور البوراج البحرية من المضيقين، وهذا يُناسب الطرفين، فمن جهة ظهرت تركيا وكانها منعت مرور البوارج الحربية للوصول إلى السواحل الأوكرانية ومن جهة ثانية لم يخسر بوتين السوق التركية (التي طالما لعبت دور ناجحاً في مساعدة الأنظمة المعاقبة اقتصادياً في التسويق كما فعلت طويلاً مع إيران على سبيل المثال، وفي هذا فائدة للمافيا التركية وكبار رجال أعمالها الذين هم في الخنصر الأردوغاني) كما أنه (بوتين) يُسيطر على جزيرة القرم منذ العام 2014 وأي شيء أهم من القرم في هذا الوقت موانئ وإطلالة مُباشرة على أوكرانيا، لن يحتاج بوتين للدردنيل والبوسفور حاجته إلى الحفاظ على جزء من سوق وباب على سوريا والعراق ومنهما للخليج العربي، وهذا طبعاً قد يجعل الفرصة مؤاتية لترتفع قيمة الليرة التركية ولو قليلاً لكنها ستكون كافية لإمتصاص سخط المعارضة التركية المتعاضم ضد نظام أردوغان.
فتركيا تملك حجم تبادل تجاري مع روسيا يصل إلى 36 مليار دولار سنوياً، إلى جانب شطر من النفط والقمح الذي تستورده من روسيا وملايين السيّاح الروس سنوياً، كل ذلك سيستمر إلى جانب المكسب الأهم وهو تحويل تركيا لممر شبه إجباري للغاز الروسي – عبر البحر الأسود- الذي لن تستطيع أوربا التخلي عنه في القريب العاجل وذلك بعد إغلاق Nord Stream2.
هذه الملامح السياسية الإنتهازية والتي يراها أتباع أردوغان من غير التُرك بأنها إنسانية تختفي تماماً حين تتبدل المصالح فيظهر الوجه الوحشي الفج حينما يتعلق الأمر بالأرمن أو الكرد على سبيل المثال، فكلنا رأينا رد فعل النظام التركي عندما اعترف البرلمان الأوربي بالإبادة العثمانية للأرمن وكيف رمى مباشرة بورقة اللاجئين السوريين في وجههم وكيف هدد وأزبد ورمى كل أقنعته الإسلامية والإنسانية متمسكاً بروح الفاشية الطورانية، ليستكمل تهديده لأرمينيا بتدخله العسكري المباشر في الحرب الأذربيجانية على أرمينيا وإرسال المرتزقة (سوريي أردوغان) إلى ناغورنو كراباخ، وهو النظام ذاته الذي حقق فورة اقتصادية عالية من وجود إقليم كردستان، إلا أن بمجرد طرح فكرة الاستفتاء في الإقليم عام 2017 نسي السلطان الأخوة التركية الكوردية التي تغنى بها قبيل الانتخابات التي أوصلته إلى التجديد لرئاسة الحكومة بأصوات الكرد، وتحول الأردوغان الطيب إلى الجنرال الطوراني الذي تمترس وراء أسلحة الدولة ليُهدد الوجود الكوردي، وهو الطيب الذي جمع كل إرهابي العالم في إدلب وغذى بكل علانية تلك القوة ومدها بالسلاح والتدريب والإمعان في التطرف لتكون مقدمة إرهابية إلى احتلال المدن ذات الغالبية الكردية بداية بعفرين وانتهاءً بسري كانيه (رأس العين) وتل أبيض تلك المدن التي كانت تتلالئ بالألوان وهي اليوم مُتشحة بالسواد بعد أن تم تهجير الكرد والمسيحيين والإيزيديين والأشوريين منها وباتت حراماً على أهلها، مشاعاً للخراب، وتحت علم تركيا تعيث فيها الفصائل الإرهابية -المُصنعة أردوغانياً- فساداً.