النِّسوية إذ لا تستثني ذاتها من النقد

ضمن سجالات السوريات والسوريين حول النسوية، تنطلق أصوات تتهم الناشطات النسويات بأنّهنّ جعلن النسوية ديناً أو عقيدة “كارهة للرجال”. هذا الجدل طبيعي في مجتمع غُيّبت عنه الحريات والحقوق طويلاً، خاصة أنه يتعلق بقضية كالقضية النسوية، تعدّ إشكالية حتى في أكثر الدول استقراراً. لكن من غير الطبيعي حكماً أن تصبح النسوية ديناً أو عقيدة، فهي فلسفة نقدية تطال كل ما يعيق حصول النساء على الحقوق والموارد والفرص بشكل متساوٍ مع الرجال، ومن ثمّ تناهض التمييز والتسلط والعنف ضد النساء وفي المجتمع عموماً، مما أسست له ثلاثية الهيمنة الكبرى: الذكورية، والرأسمالية، والاستعمار.

هذه التركيبة الثلاثية، بمنتجاتها المعقّدة كالعنصرية والطبقية والعرقية وغيرها، تغلغلت في المجتمعات كافّة، وجعلت مهمة التحليل والنقد النسوي صعبة وشائكة، في ظل قلّة الدعم والامكانيات، عدا أن النسويات والنسويين أنفسهم أفراد من المجتمع الذي تحكمه هذه التركيبة بنتائجها وتداخلاتها، وهنّ وهم تأثّرن وتأثّروا بالمنظومة التي يحاربنها ويحاربونها، وهذا يستدعي محاربة آثارها على الصعيد الذاتي أيضاً.

من الجيّد أنّ الحركة النسوية السورية بدأت في السنوات القليلة الماضية تسترد عافيتها، بعد مرحلة انحسار بسبب الحكم الدكتاتوري، وهي تسعى لمواكبة الحراك النسوي العالمي الذي بلغ موجته الرابعة. غير أن نقاشات كثيرة على صفحات التواصل الاجتماعي وفي اللقاءات والمؤتمرات النسوية، تعكس خلافات واختلافات جذرية بين النسويات، وقد يصل الأمر إلى صراعات “تشق الصف النسوي” إن جاز التعبير، وينتهي الأمر أحياناً بأن تتبادل النسويات أنفسهنّ اتهامات “الذكورية” و”الهيمنة” و”التسلط”.

اقرأ أيضاً: اليوم الدولي لعدم التسامح مطلقا إزاء تشويه الأعضاء التناسلية للإناث

جيلياً، أي من الناحية العمرية، يمكن حالياً رصد ثلاثة أجيال ضمن الحركة النسوية السورية، تتوزّع على موجات وتيارات مختلفة: النسويات الأكبر سناً، وهنّ اللواتي حملن الراية وسط تحديات الدولة الأمنية المستبدّة في أوج قوّة نظام حافظ الأسد، وسعين بما أوتين من إمكانيات وضمن ما أتاحته الظروف أن يبقين شمعة النسوية متّقدة. يليهنّ الجيل متوسط العمر، من اللواتي عايشن المرحلة الأخيرة من حكم الأسد الأب ومرحلة وريثه وصولاً إلى الثورة السورية. ثم جيل النسويات الشابات، ممن كنّ طفلات في بداية الثورة وكبرن معها وعايشن تحوّلاتها، وتشكّل وعيهنّ في سياقها.

المآلات التي انتهت إليها الثورة والحرب التي تلتها، أدّت لهجرة أعداد كبيرة من النسويات بأجيالهن المختلفة، إلى دول الجوار أو الدول الأوربية، وبدأن تلمّس طرق نسوية جديدة، وتوسيع معارفهنّ ومراكمة خبرات ومعارف جديدة، إضافة إلى تبادل التجارب مع غيرهنّ في الحراك النسوي العالمي. ومن جهة ثانية، استعانت النسويات في الداخل السوري، سواء في مناطق النظام أو المناطق الخارجة عن سيطرته، بالإنترنيت للّحاق بالركب، وهنّ يبذلن جهوداً فردية وكذلك من خلال التشبيك مع المنظمات النسوية والنسويات في الخارج، للمضي قدماً في تطوير تجاربهنّ.

مثّلت النسويات الشابات فرصة ذهبية لضخّ الدماء في الحراك النسوي السوري، لا سيما اللواتي لجأن إلى أوروبا، ذلك أنهنّ برغم كل التحديات التي تعترضهنّ،  نلن جرعة أقل من الدكتاتورية والهيمنة، وكبرن في مجتمعات يحكمها القانون، وتسودها أنظمة ديمقراطية تتيح لهنّ التمتّع بحقوقهنّ وحرّيتهنّ بصورة ما كانت لتتحقّق لو أنهن ترعرعن في ظل حكم الأسد ومخابراته. تلعب هذه النقطة دوراً كبيراً في جعلهنّ أكثر جرأة وشجاعة، في التفكير والمبادرة والتصرّف والنقد، قياساً على نظيراتهن اللواتي عشن في كنف الاستبداد ردحاً من الزمن، فعانين منه وتأثّرن به بشكل ما، وحملن رواسب تلك المرحلة، إلى هذه الدرجة أو تلك.

تأثير الفروق الجوهرية في ظروف تشكّل وعي كل جيل ظهر في أشكال مختلفة، منها ما يمكن تسميته “صراع الأجيال”. هذا الصراع ليس حكراً على التجربة النسوية السورية، فقد عاشته وتعيشه نسويات المجتمعات كافّة، ومن أمثلته الأبرز علاقة ربيكا ووكر، إحدى أهم منظرات الموجة النسوية الثالثة، مع والدتها أليس ووكر، النسوية المعروفة في الموجة الثانية. فإلى جانب نقد أفكار الأم (أليس) التي كانت ترى أن كونها زوجة وأم “شكل من أشكال العبودية” فحاولت قمع غريزة الأمومة لدى ابنتها ريبيكا من خلال عدم السماح لها باللعب بالدمى، كذلك اتهمت ريبيكا والدتها بأن منظورها النسوي الصارم أثّر على علاقتهما وعلى نفسيتها.

في كتاب “أن تكون حقيقاً: قول الحقيقة وتغيير وجه النسوية” (1995)، تقول ربيكا: “تجد النسويات الشابات أنفسهن يراقبن كلامهنّ ولهجتهنّ في أعمالهنّ حتى لا يزعجن أمهاتهنّ النسويات الأكبر سنًا. فهناك فجوة واضحة بين النسويات اللاتي يعتبرن أنفسهنّ موجة ثانية وأولئك اللاتي يعتبرن أنفسهنّ موجة ثالثة. وعلى الرغم من أن المعايير العمرية لنسويات الموجة الثانية ونسويات الموجة الثالثة غير واضحة، إلا إن النسويات الشابات يجدن صعوبة في إثبات جدارتهن كباحثات وناشطات نسويات”.

هذه العلاقة المعقدة بين الأجيال النسوية تتطلّب منّا كنسويات سوريات، مراجعة خطاباتنا وسلوكياتنا ونقدها، فالنسوية كفلسفة نقدية تسعى لنقد الخطاب الذكوري وتجاوزه، لا تستثني نفسها ولا ممثلاتها وممثليها من النقد، والذي لابد أن يطال الخطاب والسلوك ويتفحّص مدى توافقهما، قولاً وممارسة، مع المنظور النسوي. هذا يساعدنا على التخلّص من رواسب تركيبة الهيمنة الثلاثية (الذكورية، والرأسمالية، والاستعمار) ومنتجاتها، ويعزّز فرص التمكين والدعم المتبادل بين النسويات جميعاً، بغض النظر عن اختلاف الآراء.

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد