سوريا كلها كانت في تلك الحفرة

الحكاية، أو الوثيقة، القاسية والمؤلمة، التي كشفت عنها “الجارديان” البريطانية، بالصوت والصورة، هي جزء صغير من الصورة، وأهميتها أن الكشف عنها جرى في واحدة من كبريات الصحف العالمية، وأنها أتت في ظرف سياسي حرج يتساءل العالم فيه عما جرى في سوريا، مقارنة مع ما جرى في أوكرانيا، وعن سبب الصمت الرهيب إزاء الهول السوري الرهيب، الذي شارك فيه الجيش الروسي (مع إيران وميلشياتها) دفاعا عنه نظام الأسد، في مقابل ذلك الغضب غير المسبوق على الغزو الروسي لأوكرانيا (وبالمناسبة فقد ذكر ذلك بنكبة الفلسطينيين أيضا).

والحال فإن حفرة الموت في حي التضامن (وهو جزء من منطقة مخيم اليرموك) بدت وكأنها حفرة لسوريا كلها، إذ منذ اندلاع ثورة السوريين في العام 2011، بات عنف النظام منفلتا من عقاله، عنف مطلق، وإلى الحد الأقصى، ومن دون أي كوابح أو قيود، قانونية أو أخلاقية أو شكلية، في تعميم للموت والخراب والتشريد في سوريا.

 لذا كانت البداية في قمع المظاهرات في المدن السورية، من قبل الشبيحة وأجهزة الأمن، والتي جرى أهمها في فض اعتصامي ساحة الساعة في حمص وساحة الناعورة في حماه، بطريقة عنيفة جدا، وفي دعس الجنود على أجساد المتظاهرين في قرية البيضا (قرب بانياس)، التي اطلقت صرخة محمد عبد الوهاب البياسي: “أنا إنسان ماني حيوان وهالعالم كلها متلي”.

بيد أن قصة المجازر الجماعية بدأت من قرى وبلدات مثل الحولة والتريمسة والقبير (في ريف حمص وحماه)، وارتكبت بالأسلحة البيضاء (منتصف 2012)، وقبل اخذ الثورة السورية للعمل المسلح، وبعدها حدثت مجازر في بانياس والرستن والمعرة، ثم مجازر حول دمشق في دوما والزبداني والقابون وبرزة والمعضمية وداريا، ثم في حمص وحلب ودرعا.

وما يفترض إدراكه أن أعمال القتل تلك لم يكن لها معنى سياسي، فهي لا تستهدف ردع الخصم، أو تخويفه، أو هزيمته، فهذا قتل محض، يقتل فيه القاتل الإنسان في جسمه، ويقتل فيه روحه في جسم ضحيته، التي تسلّم بعجزها. والمعنى أن تلك مقتلة عبثية لا منتصر فيها، فلا القاتل قادر على إشهار انتصاره على المقتول، ولا المقتول باستطاعته إشهار هزيمته أمام القاتل.

وفي مراجعة للحوادث التاريخية التي شهدت أهوالا كهذه، بعد الحرب العالمية الثانية، ثمة مجزرة «ماي لاي» في فيتنام، التي ارتكبتها القوات الأمريكية (1968)، إذ قام قائد وحدة عسكرية بتطويق القرية وجمع القرويين العزل وأمر بإضرام النار في بيوتهم وقتل كافة السكان، ما أدى إلى مصرع 300 ـ 500 منهم. وكان مسلمو البوسنة عانوا أهوالاً كهذه، كمجازر وتشريد وتخريب، جراء الحرب التي شنها الصرب والكروات عليهم في النصف الأول من التسعينيات، حيث بلغ عدد ضحايا تلك الحرب نحو 100 ألف. كما عانى مثلها مسلمو الشيشان، الذين شنت روسيا عليهم حربا مدمرة، لإخماد نزعتهم الاستقلالية، ما أدى إلى مصرع عشرات الألوف منهم، أغلبهم قضى بنتيجة القصف من البر والجو، أواخر التسعينيات. أيضا تأتي الحرب الأهلية أو القبلية في رواندا بين قبيلتي التوتسي والهوتو، التي اتسمت بالإبادة الجماعية، إذ شن القادة المتطرفون في جماعة الهوتو (الأغلبية في رواندا) حملة إبادة ضد قبيلة توتسي (أقلية)، بحيث قتل خلالها ما يقارب على 800 ألف شخص في مئة يوم من أبريل إلى يوليو (1994)

وفي التجربة الفلسطينية يمكن إدراج حروب المخيمات في هذا السياق، وضمن ذلك مذبحة صبرا وشاتيلا (أيلول 1982) التي نفذتها قوات حزب الكتائب وجيش لبنان الجنوبي بالسلاح الأبيض، ونجم عنها مصرع 3000 من الفلسطينيين واللبنانيين في ثلاثة أيام. وهو ما كان حصل قبلاً في مخيم تل الزعتر (1976)، الذي قتل فيه نحو 1000 من سكانه.

أيضا، تأتي في هذا السياق المجازر التي تعمّدت القوات الصهيونية ارتكابها ضد الفلسطينيين إبان النكبة (1948)، والتي استهدفت ترويعهم وإزاحتهم من أرضهم، وإجلائهم عن وطنهم، وقد نجم عنها مصرع 4ـ 5 آلاف منهم، وضمنها مجازر: دير ياسين مع 254 شهيداً (9/4/1948)، وهدار الكرمل (حيفا) مع 150 شهيدا (22/4/1948)، وبيت دارس (غزة) مع 260 شهيداً (21/05/1948)، والطنطورة مع 250 شهيداً (22/05/1948)، واللد مع 426 شهيداً (11/07/1948)، والدوايمة مع 580 شهيداً (29/10/1948).

ويتبين من التجارب السابقة أن كل درجة العنف هذه، والمتمثلة بالمجازر والتدمير والتشريد، كانت نتاج حالة حرب من دولة على دولة أخرى، أو من دولة على شعب أخر، أو من شعب من أثنية معينة على شعب من أثنية أخرى، وكلها كانت كناية عن حروب استعمارية، أو عن حروب تطهير عرقي أو ديني، أو كحالة مختلطة بين الاثنين، الأمر الذي يفترض انه لا ينطبق على الحالة السورية، إلا في حال كانت السلطة، التي شنت الحرب على شعبها، تتمثل هذا الوعي، أي وعي حالتها كسلطة محتلة، أو كنوع من سلطة عنصرية غاشمة، ولو أنها لا تصرّح بذلك علناً.

وفي الواقع فإنه يمكن إحالة المقتلة السورية المهولة على معان كثيرة في آن، فاشية واستعمارية وبدائية أي وحشية، وربما يفيد التنويه هنا، أن المقارنة بين قاتل وقاتل، أو بين جريمة وجريمة، غير صحيحة، بغض النظر عن الجهة، ذلك أن الجريمة جريمة، ولا توجد جريمة تغطي أو تبرر أخرى، ولا مجرم يغطي أخر او يبرر أخر. بيد أنه يفيد توضيح الفارق الحقيقي مع المجازر التي ارتكتبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، أو اللبنانيين، أو السوريين، أو المصريين، مثلا، ذلك أن إسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والوحشية والمصطنعة، لا تقتل في شعبها، أي لا تقتل في المواطنين اليهود فيها، في حين إن النظام السوري يقتل ويشرد ويدمر في شعبه، أو ما في ما يفترض انهم شعبه، وهذا هو الفارق الحقيقي، القاسي والمؤلم.

في شريط فيدو جريمة حي التضامن كان القاتل يقتل وهو يضحك، كأنه يلعب، في حين المجرم الإسرائيلي يقتل لينهي الحكاية، مثلا كان سائق الجرافة، أي القاتل المجرم (2002) في مخيم جنين، يشرب الويسكي ليأخذ ذهنه بعيدا عن هول ما يفعل.

حفرة حي “التضامن” كأنها كانت حفرة سوريا كلها، الموتى، والذين على قيد الموت، والقاتل المجرم العالق بالحفرة وبالضحايا…

شارك المقال على:
مقالات ذات صلة:

تقارير وتحقيقات

آخر الأخبار

مساحة نسوية

أرشيف الاتحاد