خلقت انتفاضة الكرد في 12 آذار 2004 لدى غالبية، إن لم نقل جميع، الكرد وخاصة أهالي مدينة “قامشلو” قصة فردية يرويها كل شخص بطريقة مختلفة، ولكنها تتفق بخلاصتها ونتائجها وتداعياتها.
ولعل الكثيرون سيقولون في ذلك اليوم أن حدس حصول أمر سيء كان يرافقهم منذ لحظة مغادرتهم المنزل باتجاه الملعب البلدي بقامشلو لحضور مباراة الجهاد والفتوة، وهذا ما مر به الصحفي والناشط الحقوقي “كرم يوسف”.
وأشار “يوسف” إلى عدة عوامل كانت تؤكد أن الحدث كان مخططاً له، ومنها “حضور محافظ الحسكة بسرعة غير متوقعة إلى أرض الملعب، الشعارات التي كان يرددها جمهور الفتوة وهم يتجولون بالسيارات في أرجاء المدينة بحماية أمنية، ضد الرموز والقادة الكرد، والكميات الكبيرة من الحجارة والعصي التي أدخلوها إلى الملعب”، وهنا يتابع “يوسف” “جماهير الجهاد بدورها، وبعد هذه التفاصيل وهروبهم من أرض الملعب، مزّقت صور حافظ الأسد المنتشرة بمحيط الملعب، والذي كان يعتبر تابوهاً يمنع الاقتراب منه”.
“عند مدخل الملعب، حدث تدافع نتيجة الأعداد الكبيرة من الجماهير، وبصعوبة، تمكنت من الدخول، وقبل بداية المباراة هجمت جماهير فريق الفتوة (الضيف)، الذين أحضروا معهم العصي والحجارة، على جماهير فريق الجهاد، وتحت أنظار السلطات الأمنية التي كانت قد خططت لهذا الحدث من قبل”، يبدأ “كرم” بسرد مشاهداته الأولى على الانتفاضة للاتحاد ميديا.
وتابع “تمركزت جماهير فريق الفتوة على المدرج الخاص بجماهير فريق الجهاد، على غير العادة التي يخصص لجماهير الضيف مدرجاً خاصاً، ونتيجة الهجوم حدث تدافع على مخارج المدرج، واللحظة المفصلية كانت أثناء إذاعة خبر بحصول قتلى في الملعب من مذيع الإذاعة في الملعب، ما أدى إلى توافد أعداد كبيرة من أهالي قامشلو إلى الملعب”.
“ووقع عدد من الجرحى نتيجة التدافع”، يقول “كرم”، وأضاف “قوات النظام السوري حمت جماهير الفتوة داخل الملعب، بينما خرج جمهور الجهاد إلى خارج الملعب في ظل اعتقال عدد من المشجعين وفق ما أظهرت الصور الأولى التي التقطناها لهذا الحدث”.
وتابع “كرم يوسف” سرد لحظاته “كنت على أحد المخارج، ونتيجة التدافع وقعت على الأرض، وفي تلك اللحظة حصل إطلاق رصاص، ونتيجة الوقعة نجوت من الإصابة، وحين خرجنا ن الملعب كان الأهالي بالفعل محتشدين حول الملعب للاطمئنان على ذويهم وأولادهم، ما أدى إلى زيادة أعدادهم، وبعدها بدأ إطلاق الرصاص الحي، وبدأت المأساة الأولى في ذاكرة الشعب الكردي”.
نشر صور الانتفاضة
حول دوره في إيصال الصور والمعلومات إلى وسائل الإعلام في ذلك الوقت، يوضح “كرم يوسف” أن “الأهم في تلك اللحظات كان إيصال ما يجري في الملعب إلى العالم، كنا على يقين أن الصور واللحظات التي وثقناها ستغير في الرأي العام، ومع بدأ حظر التجول وانتشار القوى الأمنية والجيش في شوارع قامشلو، كان الناس أمام التلفاز ينتظرون ما سيحدث”.
ووصف تلك اللحظات بأنها كانت “عصيبة، سيما مع انتظار ما يمكن أن يحدث غداً أثناء التشييع، وهنا كنا نحاول إيصال الصور والمقاطع المصورة إلى الخارج لجعل الحدث على المستوى الذي ينبغي أن يكون عليه بوجود ضحايا مدنيين”.
وتابع “يوسف” “في اليوم التالي كان هناك إجماع من قبل أحزاب الحركة الكردية في سوريا على المشاركة في تشييع الشهداء الذين سقطوا في اليم الأول، وكما لم يكن متوقعاً أن يتم إطلاق الرصاص الحي على الناس في الساعات السابقة، كان هناك إطلاق الرصاص الحي على المشاركين في التشييع والذي قدر عددهم بالآلاف، من أهالي مدينة قامشلو والأرياف المحيطة بها”.
ونوه “يوسف” إلى أن “الحدث لم يكن مجرد تشييع، وإنما رُفعت شعارات تطالب بحقوق الشعب الكردي في سوريا، وكان هناك إجماع على هذا الأمر، ونتيجة إطلاق الرصاص الحي، ارتفع عدد الشهداء أكثر”.
وأضاف “نتيجة تسارع الأحداث شكلنا مع بعض الأصدقاء غرفة عمليات في منزلنا لإرسال ونشر المواد التي نتمكن من الحصول عليها، ومن أكبر التحديات التي كانت تواجهنا هي سوء خدمة الأنترنت حينها، وهي الوسيلة الوحيدة لاستخدامها في عملية النشر، ونتيجة الخدمة السيئة لم نكن نستطيع إرسال مقاطع الفيديو ذات الحجم الكبير، لذا لم يكن أمامنا إلا أن ننسخ المقاطع على أقراص مضغوطة CD، وإرسالها إلى تركيا عبر معبر نصيبين الحدودي، ومن الطرف الآخر كان الدكتور محمد محمود يستلم المواد ويرسلها إلى القنوات الكردية. أذكر كم كانت تلك اللحظات غاية في الصعوبة”.
“إعلام النظام السوري كان يصر على عدم وجود أي حدث في مدية قامشلو، لكن الصور والمقاطع التي نشرناها دفعت النظام السوري إلى الاعتراف بوجود حدث، ووصفت ذلك بالمؤامرة وفتنة اتهم بها الكرد”، يضيف “كرم”.
التوثيق الحقوقي
في الفترة نفسها عمل “كرم” مع منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف، ويقول عن عمله في التوثيق الحقوقي لأحداث الانتفاضة: “ضمن الإمكانيات المتاحة، ومع جهات كردية أخرى كنا نقوم بالتوثيق، لكن الحدث كان أكبر من أن تقوم منظمة حقوقية تعمل بشكل طوعي بذلك، إضافة إلى أن امتداد الحدث إلى مدن المدن الكردية الأخرى وحتى إلى حلب وعاصمة النظام السوري دمشق وحدوث حملات اعتقال واسعة من قبل الأجهزة الأمنية صعبت من هذه المهمة”.
ونوه “يوسف” إلى أن عمليات التوثيق لم تكن كما المطلوب، وذلك لأن “الأشخاص الذين خرجوا من السجن، بعد تصريح رئيس النظام السوري بأن الكرد جزء من نسيج الشعب السوري، كان الخوف يتملكهم نتيجة مختلف أنواع التعذيب الذي تعرضوا له، فمجرد الإدلاء بشهاداتهم كان يعرضهم ذلك للخطر، وهذا من الأمور التي ساهمت في ألا يأخذ هذا الحدث صداه بالشكل الكامل”.
تأثير الانتفاضة والتوثيقات
وقال الصحفي والناشط الحقوقي “كرم يوسف” إن “الكرد كانوا من أوائل الذين قاموا بهذه الثورة، وحطموا صورة النظام السوري المكرسة في أذهان العالم، لو كان هناك وقوف من قبل باقي المكونات السورية إلى جانب الشعب الكردي، لأمكن أن يكون ربيع منطقة الشرق الأوسط أو ما يعرف بالربيع العربي في انتفاضة 12 آذار 2004 وبداية تلك الشرارة، لكن الكرد وجدوا أنفسهم وحيدين في ذلك المشهد مع استمرار آلة النظام الأمنية في اتهامهم بالانفصاليين، وتهم أخرى معدة مسبقاً يتهم الكرد بها وهذا أدى إلى أن يكون عدد الضحايا أكبر”.
وأضاف “يوسف” “نُشرت الصور ومقاطع الفيديو مع رسالة الكرد إلى الخارج، وإلى النظام السوري، كما أن الحركة الكردية وجدت نفسها أمام مرحلة مفصلية، حيث الإجماع الذي حصل بين أحزاب الحركة الكردية كان إجماعاً تاريخياً، ورسالة مفادها أن هناك ضرورة لأن يحدث تغيير وآلية جديدة في مواجهة النظام”.
وأشار إلى أن “الكرد في سوريا وجدوا أنفسهم أكثر تنظيماً وقادرين على توجيه الدعوات للمشاركة في المظاهرات والاعتصامات سواء للمطالبة بحق المجردين من الجنسية، أو الحقوق القومية والثقافية في أكثر من مناسبة، ولم تتوقف هذه المظاهرات في مدينة قامشلو فحسب بل امتدت إلى العاصمة دمشق التي أصبحت بعد عام 2004 مركزاً للأحداث والاعتصامات الكردية المطالبة بضرورة التغيير والتعامل مع القضية الكردية بمنحى وجانب آخر، لكن النظام السوري كان يصر على العقلية التي أدت بسوريا بعد عام 2011 إلى ما أدت إليه الآن، وتلك العقلية كانت تحكم الكرد وحدهم”.
وحث “يوسف” المنظمات الحقوقية الكردية على القيام مجدداً، بعد 18 عاماً من الانتفاضة، بـ “توثيق الانتهاكات وتقديمها إلى المحاكم الدولية ليرتاح الضحايا في قبورهم وتأخذ العدالة مجراها”، مضيفاً أن على المنظمات الكردية “التواصل مع الجهات الدولية ليكون هذا الملف أحد الملفات المهمة التي تعيد العدالة إلى أصحابها”.