“البنت أخرتها لبيت زوجها”.
تلك هي العبارة الوحيدة العالقة في ذاكرة الطفلة سعاد، التي أضحت الآن أمّاً. تعود ذات السابعة عشرة بذاكرتها، تقول لـ الاتحاد ميديا: “في مخيلتي صورة أرنبي الأبيض الصغير، كنت ألعب معه، أطعمه يومياً، لم يسمحوا لي باصطحابه عند زواجي!”.
اليوم، أسئلة كثيرة تدور في مخيّلة سُعاد. هل واجبها القيام بتربية طفلتها أم يحقّ لها أن تلعب معها مثلها؟. كيف يُمكن أن تقدّم لها المُساعدة في الدراسة وهي لم تدخل المدرسة يوماً؟. تقول هذه الأسئلة قبل أن تبدأ الحديث.
تقول: “تزوّجت بعمر الخامسة عشر، أنجبت طفلة، من زوجٍ يكبرني بخمسةٍ وعشرين عاماً”.
تعيش سعاد مع زوجها في ريف محافظةِ الحسكة الشرقي، منذ قرابة العامين، تختصر قصتها بجملتين: “في إحدى ليالي تموز الحارة، ارتديتُ فستاناً أبيضاً، دخلت إلى الغرفة، وجدت شيخاً ينتظرني مع والدي وزوجي المستقبلي، سألني الشيخ: هل تقبلين فاروق زوجاً لكِ؟ أومأتُ بالإيجاب، وانتهى الأمر”.
وسجل العام 2015 تنامياً لظاهرة الزواج المبكر، حيث وصلت إلى 30 بالمئة، بحسب تقرير أصدره المركز السوري للبحوث والدراسات القانونية، وترتفع النسبة في الأرياف البعيدة عن دمشق، حيث تفتقر هذه القرى إلى التعليم الكافي، ويحكمها الموروث المجتمعي، إضافة إلى ظروف الحرب، وما انتجته من مشكلات اجتماعية ونفسية.
و كانت ھنرییتا فور، المدیرة التنفیذیة للیونیسف قالت في العام 2017: “داخل مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان وحده، تزوجت 40 بالمئة من النساء السوریات اللواتي تتراوح أعمارھن بین 20 و 24 عام، قبل بلوغھنّ سن الثامنة عشرة، لیصبحنّ زوجات وأمھات بینما لا یزلنّ أطفالاً”.
أريد الظلام!
تسرد سعاد حكايتها لـ الاتّحاد ميديا: “لم أعرف معنى الزواج، فوالدي منع عنّا الخروج وحدنا، أو لقاء صديقات، يومي الأول كان قاسياً حقاً مع رجل غريب، لا أحبه ولا أكرهه أيضاً، عندما أضحينا وحدنا، شعرتُ باقتراب مصيري، طلبتُ إغلاق النور، كنت أريد الظلام ومازلت”.
تخضع سعاد لضغوط نفسية، تفرضها عائلة زوجها، عبر مطالبتهم المتكررة بالانجاب، تقول: “تعيّرني والدة زوجي بطفلتي، فالمرأة الصالحة كما أخبرتني، هي التي تنجب طفلاً ذكراً، ويردد زوجي أمامي عبارات تتعلق بإنجاب الذكور، وأنه سيتزوج امرأة أخرى إن لم أنجب له ذكراً العام القادم”.
الاغتصاب الزوجي
تصف هديل تجربتها الجنسية الأولى مع زوجها بـ الاغتصاب، تلّخص حياتها السابقة بدوامة من العنف الجسدي والنفسي، تقول: “زوّجني والدي لصديقه عندما كنت في سن السادسة عشرة، أجهضت ثلاث مرات، وأصبت بمضاعفات ما بعد الحمل كادت أن تنهي حياتي، ثم أنجبت ثلاث فتيات”.
تعيش هديل مع بناتها الثلاثة في مدينة دمشق، تروي قصتها لـ الاتحاد ميديا: “أنتمي لعشيرة رفيعة المكانة في ريف الرقة، عندما أكملت الخامسة عشرة من عمري، شعر كبار العشيرة أن بقائي دون زواج يهدد شرفهم، و ربما يجرني إلى الخطيئة ويجلب العار، كما أنه إهانة لأبي، شيخ العشيرة الجليل”.
عاشت هديل مع زوجها نحو ثلاثين عاماً إلى وفاته، أضحت الآن بعمر 49 عام، اختبرت خلال سنوات زواجها أقسى أنواع العنف وهو الاغتصاب الزوجي تضيف: “استطيع الجزم أن كل الفتيات القاصرات اللواتي تزوجن، تم ذلك دون موافقتهن، لأن الفتاة في هذا السنّ لا تمتلك الوعي البسيط بمتطلبات الزواج الجسدية والنفسية والاجتماعية”.
تكمل هديل: “لا تدرك الفتاة في هذه المرحلة العمرية دورها، فهي مغيّبة وراضخة، تحرّم عليها بيئتها نطق كلمة لا، فالرفض ممنوع، سواءً رفضها للارتباط، أو لزواج زوجها من امرأة ثانية، أو المطالبة بالطلاق، أو حتى رفض ممارسة العلاقة الحميمة، أما الزوج يحق له مطالبتها بإمتاعه متى يشاء”.
قانون العشيرة
تسلب البيئة العشائرية الذكورية، المرأة حريتها، تعتبر الرفض ثورة على عادات القبيلة، ودعوة واضحة للتمرد على الأفكار المتوارثة، لكن ذلك لم يمنع هديل من تعلّم القراءة والكتابة، تبيّن حول ذلك: “خرجت من المدرسة في الصف التاسع الإعدادي، لم أبتعد عن القراءة يومياً، قرأت كثيراً، إلى أن أدركت مدى قسوة واقعي، قطعت عهداً على نفسي ألا تحظى فتياتي بذات المصير”.
رفضت هديل تزويج بناتها قبل إكمالهن دراستهن الجامعية، واظبت على تعليمهن: “شاركتُ منذ عدة سنوات بحملة مجتمعية للتوعية بمخاطر الزواج المبكر، خرجتُ مع عدد من الشبان والشابات للكتابة على جدران مدينة التل في ريف دمشق، كتبنا عبارت تدين هذا الزواج، تدعو لوقفه بشكل فوري، تحث على أهمية تعليم الفتيات، وممارسة المرأة لدورها الطبيعي في المجتمع”.
نذروني لابن عمي!
صرخت سميّة صرختها الأولى، قبل ثلاثة وعشرين عاماً، ومنذ دقيقتها الأولى في الحياة وإلى الآن، تتالت صرخاتها، فكُتب عليها قبل خروجها من الحاضنة، اسم ابن عمها، الذي أصبح زوجها في قادم الأيام.
أنجبت سميّة أربع فتيات، أملاً بوصول الصبيّ، لكنها لم تنجح، فدفعت ثمناً باهظاً، تجلى بتعنيفها المستمر، وإهانتها، وضربها: “أختبرتُ تجربة المخاض، ونزيف مابعد الولادة، الذي ظننته نزيف العادة الشهرية الطبيعي، فكدت أخسر حياتي، وتكرار الحمل والولادة أصابني باكتئاب شديد، دفعني للابتعاد حتى عن بناتي”.
لا تمتلك الفتيات في قرية سميّة رفاهية اختيار الزوج، أو التعليم، أو العمل، ورغم أن ابن عمها يكبرها بخمسة عشرة عاماً، إلا أن عادات العشيرة تمجّد هذا الزواج، وتباركه، وتختاره للفتاة منذ ولادتها، تحكي سميّة: “نذروني لابن عمي، حرموني من المدرسة، سلبوا طفولتي، وألقوا على عاتقي مسؤولية أربع فتيات، أنظر إلى وجهي في المرأة، أجده وجه امرأة في الخمسين، رغم أنني لم أكمل الثالثة والعشرون!”.
تسكن سميّة في غوطة دمشق. تسرد: “أردت تسجيل بناتي في المحكمة المدنية، ليستطعن الدخول إلى المدرسة، وليحملن هوية شخصية عندما يكبرن تحتوي الاسم والنسب، لكن فشلت، إلى أن جاء مجموعة شبّان من الأمانة السورية للتنمية، نجحوا بستجيل فتياتي في المحكمة، أحارب الآن من أجل ابنتي الصغرى علّني أقنع زوجي بتعليمها”.
الزواج المبكر والموروث
ورغم غياب الاحصائيات الرسمية المتعلقة بنسب زواج القاصرات في سوريا، في مناطق النظام والمعارضة والإدارة الذّاتيّة معاً، إلا أن الصراع المستمر، ورحلات التهجير، وانتشار مخيمات اللاجئين والنازحين، عزز ظاهرة الزواج المبكر، حيث تفتقر العائلة إلى أدنى متطلبات الحياة اليومية، ويدفعهم الفقر مجتمعاً مع الجهل بمخاطر هذا الزواج، إلى تزويج بناتهن قبل اتمامهن الثامنة عشرة من العمر.
وتنامت ظاهرة زواج القاصرات في مخيم الزعتري (مخيم للاجئين السوريين شمال شرق الأردن) أيضاً، و خلال العام 2014، نشرت هيئة بي بي سي العربية تقريراً حمل عنوان: “حكايات لم ترو عن زواج طفلات سوريات في مجتمات اللاجئين، لخّص التقرير ظاهرة تنامي زواج القاصرات في مخيم الزعتري بـ التجارة المنظمة، التي تنتهك براءة اللاجئات السوريات”.
وتبقى الفتاة هي الضحية الأولى للزواج المبكر، فمعظم الحالات لفتيات صغيرات تزوجن برجال أكبر سناً، ما يحرمهن من التعليم، ويضع فوق كاهلن أعباء لا يمكن لطفلة تحتاج من يرعاها تحمّلها، ويمكن تسميته باغتصاب للطفولة، فيصبح المطبخ بديلاً عن المدرسة، ويُنتهك جسدها وتتعرّض لآذى جسدي ونفسي كبيرين.
وفقا للقانون الدولي والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، الذكر أو الأنثى يتم التعامل معه كونه طفلاً إلى عمر 18 عام، إلا أن هذا القانون لا ينطبق على الفتيات اللواتي أجرين معهن اللقاء، وغيرهن من السوريات اللواتي تم تزويهجن قبل احتفالهن بعيد ميلادهن الثامن عشر.