تحاول هيلينا البحث عبر محرّك البحث “غوغل” عن بند قانوني يحمي الصحفيات السوريات من التحرّش. تُظهر شاشة حاسبها المحمول العديد من الصفحات، أخيراً تصل إلى قانون العقوبات السوري، تضع نظاراتها الطبية، تفتح الملف، وتبدأ القراءة.
وسط ساحة الشهبندر في دمشق، في زاوية مغطاة بأشجار التوت وأزهار الياسمين، تقضي هيلينا تسع ساعات يومياً في العمل الصحفي، تحكي لـ موقع الاتحاد ميديا، قصصاً عن التحرّش مخبأة تحت ظلال أشجار المكتب الأرضي، وخلف شاشات حاسبات التحرير.
تقول هيلينا (اسم مستعار) 23 عام: “تعرّضتُ لحادثة تحّرش، دفعتني للبحث عن القوانين المتعلقة بهذه الظاهرة، بعد قراءة قانون العقوبات السوري، أدركت سبب وقاحة المتحرشين، فالقانون السوري لا يعرّف التحرّش ولا يعاقب عليه، إنما يحدد مواد تتعلق بالأعمال المنافية للحشمة وخدش الحياء العام ويعاقب عليها”.
الزميل المتحرّش!
تروي هيلينا قصتها: “كلّفني مدير التحرير، باجراء تحقيق مصوّر عن تفاقم أزمة المواصلات في دمشق، أثناء جلوسي في غرفة التحرير، لمناقشة السكريبت مع المصّور الجديد، الذي انضم إلى فريق عملنا مؤخراً، بدأ يوجه نظره مباشرة إلى صدري”.
تشعر هيلينا بعدم الارتياح، حتى ظنت أن جزء من صدرها مكشوف أمامه، ألقت نظرة سريعة، ثم تذكرت أنها ترتدي سترة سوداء محتشمة، تساءلت في سرّها: “لماذا ينظر بهذه الطريقة!”.
قبل أن تجيب عن سؤالها، بدأ زميلها بالاقتراب منها أكثر، حاول ملاصقة قدمه بقدمها، مبرراً فعلته، أنه يناقشتها بمحاور التحقيق. تكمل هيلينا: “قلت له: ماذا تفعل؟، أنت تتحرّش بي؟، أجاب: أنا؟، يبدو أنكِ فقدتِ عقلك!”.
ترى هيلينا أن طبيعة المؤسسات الإعلاميّة توفّر ظروفاً ملائمة للتحّرش، نظراً لآلية العمل، التي تتطلّب التواصل مباشرة مع الصحفيين والمصادر، التنقل، مقابلة أشخاص جدد يومياً، إضافة إلى الصورة التقليدية السلبية الملتصقة بالصحفيات، و تصنيفهن على أنهن أكثر قبولاً لهذه الحوادث.
الخوف من المجتمع
تزداد الحوادث المتعلقة بظاهرة التحرّش بالإعلاميات في المنطقة، أما في سوريا، ما زالت معظم القصص طي الكتمان، فلا توجد احصائيات مثبتة عن عدد حالات التحرّش بالصحفيات في أماكن العمل.
تبرر الصحفية مايا، 33 عام، (اسم مستعار) السبب: “مجموعة عوامل مرتبطة ببعضها، تمنع الصحفيات من رواية قصصهن، منها ضعف القانون. قلق الصحفيات من خسارة عملهن. الفضيحة المرتبطة بالكشف عن حالات التحرّش، إضافة إلى الخوف من تحوّل المجرم إلى ضحية مدعومة من المجتمع والعادات والتقاليد”.
المدير المتحرّش!
لم تسلم مايا أيضاً من التحرّش خلال عملها الصحفي، تقول: “طلبني مرّة المدير التنفيذي للموقع الذي عملتُ به فترة قصيرة، طلب كتابة تقرير عن البيوت الدمشقية القديمة، وعن نشأت العمارة الإسلامية المرتبطة بتراث دمشق”.
وتكمل: “بدأ يشرح فكرته؛ أريد وصفاً لهذه المنازل، عراقتها، اتساعها، أثاثها، مثلاً جمالية غرف النوم الدمشقية، الأسرّة الكبيرة، اقترب حتى أصبح خلفي تماماً، وضع يديه على نهديّ وهمس في أذني؛ جمالية الليلة الأولى للعروسين على هذه الأسرّة”. تغمض مايا عينيها، ترفع شعرها قليلاً وتقول: “دفعته إلى الخلف حتى اصطدم في الحائط وركضت خارج المكتب”.
تستفسر مايا: “لماذا أقدم على فعلته؟: ربما لأنني كنت قد التحقت حديثاً بالعمل، أراد أن يجرّب، أو لأن صدري كبير نوعاً ما، لم يمتلك نفسه، دفعته شهوته للتحرش بشكل مباشر، دون خوف من العقاب”.
وتضيف: “يقود الغرور معظم المدارء كأصحاب سلطة، قدرتهم على طرد الصحفيات، نتيجة غياب العقود القانونية الحامية لحقوقهن في معظم المؤسسات الإعلامية، ومعرفته المسبقة أنني سأتكتم عن تحرّشه، أظن أيضاً، تبعاً لتجاربه السابقة مع صحفيات أخريات التزمن الصمت”.
تحرّش عبر واتساب!
في ظروف لا تختلف كثيراً عن سابقتها، تحكي الصحفية عبير لموقع الإتحاد ميديا، تعرّضها للتحرّش اللفظي عبر موقعي واتساب و انستغرام، من قبل زميلها في العمل، في مدينة دمشق. تروي عبير (اسم مستعار) قصتها: “حاول زميلي في قسم الرصد، في أحد القنوات التلفزيونية الخاصة، التقرّب مني مراراً، وطلب منّي أن نمارس الجنس، رغم معرفته المسبقة أنني متزوجة، ورفضي المتكرّر للعرض. لسوء حظي، عملي مرتبط مباشرة بعمله، فهو يقوم برصد الأخبار اليومية والصور ومقاطع الفيديو، المنشورة عبر المواقع الالكترونية ووكالات الأنباء، وأنا أحررها”.
وتضيف: “أرسل مرّة، صورةً لفتاة شبه عارية تضع يدها على مؤخرتها المكشوفة، بحجة مساعدتي بانتقاء صورة لمقالتي عن الحياة داخل ملاهي جرمانا، وصلتني الصورة عبر واتساب، فوجئت أنه أرسلها عبر انستغرام أيضاً، كان يعلم جيداً عدم صلاحية الصورة للنشر، إنه تحرش غير علني”.
“عاكسني آه، بس تعاكس بالراحة، أنا عايزة كون مرتاحة”. كلمات أغنية الفنانة اللبنانية مايا دياب، حملت عنوان “حطالي روج”، أرسل زميل عبير رابط هذه الأغنية عبر واتساب ورابط أغنية أخرى للاستعراضية اللبنانية مريم كلينك تقول: “حطوّ بليز، حطّ الماسك بليز، حطوّ، ما أغضب عبير، وجعلها تتخذ خطوة جدّيه تجاه تحرّشه المستمر لها، على حدّ وصفها.
تشرح عبير ما جرى: “طلبتُ الدخول إلى غرفة المدير العام، فتحت هاتفي، تركته يقرأ كل رسائل زميلي، ويشاهد الصور التي أرسلها. الأغاني التي تدعو إلى ممارسة الجنس، كان المدير متعاوناً حقاً؛ كتب أمامي ورقة تضمنت طرد زميلي مباشرة، مع تسليمه كامل مستحقاته المالية، ومنع أي مدير في المؤسسة من إعطائه توصية للعمل في مكان آخر”.
وكانت منصة انستغرام، بدأت منتصف العام الماضي، اختبار ميزة جديدة تتيح حماية أكبر للمستخدمين من التحرّش والإساءات، وقال أدم موسيري رئيس الشركة أن “الخاصية الجديدة التي تسمى “الحدود” تستهدف الحماية من هذه الممارسات، عن طريق السماح للمستخدمين بوقف وصول الرسائل مؤقتاً إذا شعروا أنهم مستهدفين برسائل مسيئة.
غياب المحاسبة
وعند الحديث عن حالات الحرّش، تبدو القصص متشابهة، وتتقاطع في معظم الحالات في زاوية واحدة، هي أن المتحرش استغل موقعه في المؤسسة، كغطاء لانتهاكاته بحق زميلاته، وغياب القوانين الإدارية داخل المؤسسة لمحاسبته، إضافة إلى التزام الصحفيات الصمت في غالبية الحالات.
وكانت شبكة الصحفيات السوريات، أجرت نهاية العام 2019، استبيان عن عدد حالات التحرش بالصحفيات في أماكن العمل، وأظهرت النتائج أن 25 بالمئة من الصحفيات السوريات تعرضن للتحرش الجنسي، و30 بالمئة للإساءة بسبب جنسهن، بينما أكدت 70 بالمئة من المشاركات ازدياد حالات العنف ضد الصحفيات.
وتنص المادة 506 من قانون العقوبات السوري على الآتي: “من عرض على قاصر لم يتم الخامسة عشرة من عمره، أو على فتاة أو امرأة لهما من العمر أكثر من خمس عشرة سنة، عملاً منافياً للحياء، أو وجه إلى أحدهم كلاماً مخلاً بالحشمة عوقب بالحبس التكديري من يوم إلى ثلاثة أيام، أو بغرامة لا تزيد على 75 ليرة أو بالعقوبتين معاً.