“لم نستطع فك قيدها وإيقاف ما تتعرّض له من عنف، أو حتى تقديم الطّعام لها خوفاً من تهديدات أبيها الذي منع أي تواصل معها”.
بهذه الكلمات تبدأ فاطمة، وهي إحدى جارات الطّفلة “نهلة”، لتسرد قصّة الفتاة الّتي توفّيت، وهي تبلغ من العمر 6 سنوات، بعد سنواتٍ من العنف والتعذيب والإيذاء الجسدي على يد والدها، في مخيّم “فرج الله” للنازحين في محافظةِ إدلب، شمالي سوريا.
تضيف فاطمة: “كانت نهلة تتسوّل الطعام من سكّان المخيّم، محلّ إقامتها مع والدها وزوجته. كان والدها يُعنّفها عندما يسمع أنّها غادرت المنزل وطلبت الطعام، أو قدّم لها أحد سكّان المخيّم وجبة من الأكل”، مؤكّدة على أنّ نهلة لم تكن تُعاني من أي مشاكل نفسيّة أو عقليّة قبل تعنيفها.
تواصلَ سكّان مخيّم “فرج الله” مع جهاز الشّرطة التابع لحكومة الإنقاذ الّتي أسّستها هيئة تحرير الشّام (جبهة النّصرة سابقاً)، لكن همّش الجهاز تواصل السكّان، ولم يلبّوا أيّ نداءٍ لهم لإنقاذ حياة الطفلة “نهلة”.
“نهلة” هي واحدة من قصص كثيرة لأطفال تعرّضوا/ن للعنف المنزلي والأسري والإيذاء الجسدي والاستغلال على يد أفراد من العائلة في محافظة إدلب، الّتي باتت فيها ظاهرة تعنيف الأطفال وإيذاءهم، واستغلالهم في التسوّل وغيرها من المِهن، حدثاً اعتياديّاً في ظلّ غياب المحاسبة والإهمال المتعمّد من قبل هيئة تحرير الشام، والفصائل الّتي تسيطر على المحافظة.
أباء يستخدمون أطفالهم في “التسوّل”
على مقربةٍ من ساحة السّاعة في مركز مدينة إدلب، ينتشر عشرات الأطفال الّذين يعملون في بيع البسكويت، ويُمارسون “التسوّل” بعيداً عن مقاعد الدراسة، وبعيداً عن رقابةِ الأهل والمجتمع والسلطة القائمة في المحافظة.
أثناء تجوّل معدّ التقرير في ساحة السّاعة، ألتقى مع الطفلة “وفاء”، وهي تتسوّل من المارة وتحاول الحصول على المال منهم، بطلبٍ من والدها.
تقول وفاء: “كلّ صباح نتعرّض للضرب على يد والدنا أنا وإخوتي إذا ما رفضنا الخروج للتسوّل. حتى في المساء، إن عُدنا إلى البيت ولم نؤمّن مبلغاً جيداً مع إخوتي الثلاثة نتعرّض للضرب أيضاً”.
يشترط والد الطفلة وفاء أن تقوم هي وإخوتها بجمع ما لا يقلّ عن مئتي ليرة تُركيّة يوميّاً، وإلّا فإنّهنّ سيتعرّضن للضّرب والتعنيف على يده.
تضيف وفاء لـ الاتّحاد ميديا: “أمي أيضاً تعمل. هي مستخدمة في أحد عيادات الأسنان هنا في المدينة، وكلّما حاولت أن تمنع والدي أو تطلب منه عدم إرسالنا للتسوّل يقوم بتعنيفها وضربها أيضاً”.
التنظيمات الجهاديّة تستغلّ العنف في تجنيد الأطفال
“والدي طلّق والدتي قبل نزوحنا من قريتنا. لاحقاً، تزوّج والدي مرّة ثانية، كذلك والدتي. انتقلنا للعيش أنا وإخوتي مع جدّتنا، حتّى نزحنا من قريتنا جنوبي إدلب باتّجاه مخيّم أطمة على الحدود السّوريّة- التركيّة”. تقول نبيهة، وهي فتاة سوريّة التحق أخاها بأحد التنظيمات الجهاديّة في محافظة إدلب.
تضيف لـ الاتّحاد ميديا: “في المخيّم انتقلنا للعيش في خيمة أبي. وقتئذ، بدأت زوجة أبي بضربنا أنا وأخي، وحرّض أبي على ضربنا أيضاً، الذي ضربنا وحرمنا حتّى من الطّعام”.
وتسرد حكايتها وأخاها: “كان والدي بالإضافة إلى إجبارنا بالعمل على خدمة زوجته والضّرب المبرح إذا لم ننفّذ أوامره وزوجته ولم نقم على خدمتهم، يمنعنا من التواصل مع والدتنا التي تسكن في المخيّم ذاته”. مبيّناً أنّ أخاها تعرّض للضرب والإهانة من والدها في ساحة المخيّم بعد أن تحدّث مع والدتها.
بعد هذه الحادثة، بدأ أخاها لـ نبيهة بارتياد جامع المخيّم، وانعزل عن محيطه الاجتماعيّ. تقول نبيهة: “اختفى أخي ستّة أشهر، ليعود بعد ذلك بسيارة كبيرة ومعه مجموعة من أصدقاءه يرتدون ثياب عسكريّة ويحملون السّلاح. طلب مني ارتداء لباس (شرعي)، واللحاق به إلى منزل صديقه مسؤول مسجد المخيّم”.
تكمل: “طلب مني إخبار والدي وعمّي الكبير الحضور. حينئذ، سمعت أخي يُخبر عمي وأبي بانضمامه إلى فيصل أنصار التّوحيد، وطلب منهم أن أغادر معه لتزوجي لأحد الأشخاص الذين جاءوا معه لتزويجي، لكنني رفضّت ذلك”.
منظمات مدنيّة لـ “تنظيم الحفلات”
في محافظة إدلب، ثمّة العشرات من المنظّمات المدنيّة المحلّية الّتي تهتم بشؤون الطفل، وتدعم قضاياهم. هذه المنظّمات التي تعمل في المحافظة وتهتم بقضايا الأطفال، غالبيتها، تعمل في نشاطات لا علاقة لها بتوثيق حالات العنف ضدّ الأطفال، أو إدارة حالاتهم، ودعمها، ومساعدة الأطفال للتخلّص من العنف الذي يتعرضون له، وإنّما تتركّز أعمالهم في الغالب على تنفيذ الأنشطة الترفيهيّة، وضمن فئات اجتماعيّة محدّدة.
يقول محمّد أبو الخير، وهو موظّف في إحدى المنظّمات المدنيّة المختصّة بقضايا الأطفال أنّ: “المنظمات الّتي تعمل في الطفولة تعمل على تلبية رغبات الجهة الداعمة، وليس حاجات المجتمع، لذا يُمكن الملاحظة أنّ أغلب القضايا الّتي يجب على تلك المنظّمات العمل عليها، هي تلك الّتي لا تلتقي مع رغبات الجهات الداعمة”.
أصبحت قضيّة تعنيف الأطفال والعنف الأسري في محافظة إدلب، متصدراً للمشهد العام في المحافظة، خصوصاً أنّ آباء هم قياديون في فصائل جهاديّة إسلاميّة من يرتكبون ذلك العنف، ولا يتم توجيه أيّ تهمة لهم أو بالإمكان الحديث عن محاسبتهم من خلال القوانين سيما أنّ هذه الجماعات نفسها تستفيد في بعض الأحيان من قضية العنف وتستغلّها في سبيل تجنيد المزيد من الأطفال في صفوفها، وكذلك فإنّ المحافظة لا تمتلك قانوناً يمكن من خلاله محاسبة أي مرتكب لعنف أسري بحقّ الأطفال أو النساء. ومع غياب تلك القوانين، واستمرار حكم تلك الجماعات الجهاديّة للمحافظة، فإنّ الحديث عن إمكانيّة الحدّ من هذه الحوادث غير ممكنة، بل ربّما نكون أمام حوادث جديدة في قادم الأيّام، دون أن تجد هذه القضيّة حلّاً ممكناً على المستوى الاجتماعيّ أو القانوني.