“نادينا الطّاقم الطبّي لإنقاذ مريضتنا الموجودة في قسم الإسعاف. لم يستجب أحد. طلبوا منّا أن ننقلها إلى مشفى آخر لعدم توفّر الأوكسجين في المشفى”. يقول أحد أفراد عائلة هُدى، وهو اسمٌ مستعار لامرأة من دمشق فقدت حياتها بسبب نقص الأوكسجين في مشافي العاصمة السّورية.
في منتصف شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر، نُقلت هُدى إلى مشفى المواساة في العاصمة السّورية دمشق، بعد إصابتها بفايروس كورونا. يقول المصدر الّذي فضّل عدم الكشفِ عن اسمه لأسبابٍ خاصّة: “أسرعنا في إيصالها إلى المشفى. كان لديها حالة نقصِ أكسجة شديد، لكن اعتقدنا أنّنا يمكننا إنقاذها فور وصولنا إلى المشفى، ولم نُصدّق ما كان يُقال حول نقص الأوكسجين وعدم توفّره في المشافي الحكوميّة”.
استمرت حالة الجدل بين أقارب المريضة وبين الكادر الطبي، في محاولة لإقناعهم بالمساعدة، يوجد وقت كافٍ لنقلها إلى مستشفى آخر، وربما تلفظ أنفاسها الأخيرة بأي لحظة، في وقت كانت المريضة بالفعل تلفظ آخر أنفاسها التي تحاول الحصول عليها بصعوبة بالغة، يقول المصدر، ويضيف: “انتهت حالة الجدال بعد مفارقة المريضة الحياة”.
نقص أوكسجين أم نقص أجهزة؟
نحو شهرٍ ونصف مرّ على وفاة هُدى، وحتى اليوم لا يعلم أهلها إن كانت قد توفيت بسبب نقص الأوكسجين، أم نقص أجهزة توليد الأوكسجين، فالكادر الطبي والإداري لم يقولوا أكثر من عبارة: “خدوها لمشفى ثاني، مافي أوكسجين”، على حد تعبير المصدر.
يُضيف المصدر: “سمعت من المواطنين الكثير في أروقة الإسعاف حينها، أن بعض الأشخاص في المشفى يبيعون الأوكسجين للمشافي الخاصة التي تتقاضى مبالغ طائلة من مرضى كورونا، تصل إلى 4 ملايين ليرة أحياناً، عن كل يوم يبيت المريض فيه بأحدها”.
لم يؤكَّد المصدر إن كان ثمّة حالات وفاة أخرى في قسم الإسعاف، جراء نقص الأوكسجين تلك الليلة، منتصف تشرين الأول/أكتوبر الفائت، إلا أنه يؤكد أن أروقة الإسعاف كانت ممتلئة بالمرضى الذين يحصلون على “النفس بالزور”، كما يصفُ المشهد.
وهذا كلام يتقاطع، مع حديث الدكتور نبوغ العوا، وهو عضو الفريق الاستشاري لمكافحة كورونا، والذي قال في الـ 17 من الشهر ذاته لإحدى الإذاعات المحلية السورية؛ “أنّ كل المشافي العامة، ممتلئة للدرجة التي باتت تستقبل مرضاها في الممرات، لعدم وجود غرف شاغرة.”
أزمة أوكسجين أم فساد؟
مدير مشفى المواساة الجامعي، الدكتور عصام الأمين، قال في تصريحات سابقة منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، إنهم لم يرفضوا استقبال أي مريض على الإطلاق في المشفى، وأضاف أن “المواساة يمتلك 4 خطوط لتأمين الأوكسجين، ومحطة خاصة لتوليده، بالإضافة لمستودعات وأسطوانات وأجهزة توليد الأوكسجين”.
بالمقابل تؤكد مصادر خاصة من مشفى المواساة، مفضلة عدم ذكر اسمها، أن زيادة الاستهلاك الكبير للأوكسجين، بسبب ازدياد عدد المراجعين المحتاجين إليه، أدى لوجود حالات اختناق بالمادة أحياناً، ولم تنفِ المصادر وجود حالات فساد، حيث يقوم البعض في المشفى ببيع الأوكسجين سواء للمشافي الخاصة أو لبعض المرضى الذين يتلقون العلاج خارج المستشفى.
أسطوانات الأوكسجين تحلّق
لا سعر ثابت لأسطوانات الأوكسجين التي بات شرائها هماً معيشياً جديداً للمواطن السوري الرازخ تحت خط الفقر والعوز والحرمان.
نهاية شهر أيلول الفائت اشترى سامر، 32 عاماً (اسم مستعار) من محافظة اللاذقية، أسطوانة أوكسجين بمبلغ 750 ألف ليرة سورية (215 دولار تقريباً)، بعد رفض مشافي المدينة استقباله نتيجة تزايد عدد الإصابات فيها، مع الإعلان عن امتلاء المشافي في المحافظة بنسبة 100%.
يقول سامر إنه وبعد مداولات عدة بين مرافقيه والكادر الصحي في مستشفى تشرين الجامعي، وبعد تدخل “واسطة” من خارج المستشفى، استقبلوه ومنحوه الأوكسجين اللازم ليبقَ على قيد الحياة، إلا انهم أخبروه بأن حالته ليست خطرة، ويكفي أن يحصل على أسطوانة أوكسجين وجهاز قياس أكسجة في المنزل لتلافي خطر الاختناق.
غادر سامر المشفى إلى منزله، وغادرت عائلته تبحث عمن تشتري منه أسطوانة أوكسجين، ليحصلوا عليها بمبلغ 750 ألف ليرة.
في العام 2020 لم يكن يتجاوز ثمن أسطوانة الأوكسجين أكثر من 50 ألف ليرة سورية، لكن مع بداية الطلب على المادة عمد المحتكرون لرفع سعرها إلى مبالغ تتراوح بين 400 إلى مليون ليرة سورية.
لم تلتفت حكومة النظام السّوري لمعالجة المشكلة، تماماً كما تركت كل البلاد وموادها الغذائية والصحية عرضة للاحتكار واستغلال المواطنين، وكانت تستطيع حل المشكلة بإنشاء مركز خاص لبيع الأسطوانات بسعر معقول أو تأجيرها أو حتى إعارتها للمواطنين الذين لا يملكون أحياناً حتى ثمن الخبز.
“لا ينتهي الاستغلال بمجرد شراء أسطوانة الأوكسجين”، يقول سامر ويضيف، أنه احتاج إلى تعبئتها مرتين يومياً طيلة أسبوع كامل، يضيف: “أول يومين تقاضوا منا مبلغ 7500 ليرة، لاحقاً ارتفعت أجور التعبئة إلى 10 آلاف ليرة، واستمرت الحال هكذا لثلاثة أيام ثم أصبحت تكلف 20 ألف ليرة”.
لم تكلف الجهات الحكومية نفسها، أن تبحث في مساعدة المواطنين وتأمين الأسطوانات وتعبئتها لهم بسعر منطقي طيلة فترة الجائحة المستمرة، ومع معاناة السوريين توفي العديد منهم فقط لأنهم لم يمتلكوا أسطوانة غاز أو سريراً في أحد مشافيهم “الوطنية”، كما يطيب للحكومة تسميتها.
توفي على باب المستشفى
في أحد أيام تشرين الأول/أكتوبر الفائت أيضاً، والذي سجلت فيه محافظة اللاذقية أعلى معدل يومي للإصابات بفايروس كورونا، وفق إحصائيات وزارة الصحة التابعة للنظام السّوري، توفي إيهاب 42 عاماً (اسم مستعار) في قسم الإسعاف بمستشفى تشرين الجامعي.
يقول مصدر مقرب من الشاب الراحل، إن إيهاب لم يكن يعاني من أي مرض مزمن، وأنهم أسعفوه إلى المشفى بسبب حالة اختناق تعرض لها فجأة في منزله القريب من المشفى.
ويضيف المصدر، أن إيهاب بقي مدة في الإسعاف، دون أن يقترب منه أحد، ورغم التوسلات لإنقاذه لم يكن هناك من ينتبه له، مؤكداً في الوقت ذاته حالة زحام كبيرة.
وأكثر من مرّة وصلت المستشفيات السّورية في مناطق النظام السوري إلى الحدّ الأقصى من طاقتها الاستيعابيّة من المرضى، نتيجة لزيادة عدد المواطنيين الذين يكونون بحاجة إلى تلقّي العلاج من فايروس كورونا من داخل المشفى.
وتختلفُ الأسباب الّتي تقف وراء الارتفاع الكبير في أعداد المصابين بالجائحة في مناطق النظام السّوري، أبرزها نقص الاهتمام في مؤسّسات النظام السوري بفايروس كورونا، وعدم تطبيق أيّ خطوة باتجاه الحدّ من تفشّي الجائحة؛ إذ أنّ غالبيّة المؤسّسات والمراكز الحكوميّة التابعة للنظام السّوري ظلّت مفتوحة، ولم يتم تطبيق أي نوع من الحظر الذي يُمكن أن يُساهم في ضبط التفشّي، فضلاً عن أنّ النسبة العظمى من الأطباء والممرضين في تلك المناطق غادروها نتيجة لممارسات الأجهزة الأمنيّة التابعة للنظام السوري، وبعضهم تمّ اعتقالهم إثر مشاركتهم في الثورة السّورية، ومع كلّ هذا الإهمال الرسميّ، والفساد الموجود في دوائر النظام السوري الصّحيّة، ونقص عدد المواطنين الذين تلقّوا لقاح فايروس كورونا تتجه مناطقه نحو كارثة إنسانيّة كبيرة بسبب الجائحة.