“لم أكن أعلم على ماذا بَصَمت”،
تقول نجاح، وهو اسم مستعار لـ مُسنّة بصمت على بيع منزلها لحكومة النظام السّوري دون أن تعرف. طلب رئيس بلدية رأس العين بريف مدينة جبلة الساحليّة من “نجاح” التي لا تعرف القراءة والكتابة أن تبصم على بعض الأوراق، واستجابت للأمر دون أن تدرك أنها بصمت على الموافقة ببيع المنزل الذي لا تملك سواه لصالح الاستملاك وبمبلغ 5 ملايين ليرة سورية، علماً أن السيدة لا تملك أي معيل أو مصدر دخل آخر باستثناء أرض زراعية صغيرة ستذهب لحكومة النظام السوري أيضاً.
تعيش العديد من العائلات في قرية رأس العين بمدينة جبلة الساحلية، قلقاً من أن يتم طردهم من منازلهم، بعد إبلاغهم بأن حكومة النظام السوري قررت استملاك منازل وأراضي زراعية في القرية، وبأثمان أقل من قيمتها الحقيقية بأكثر من عشرات الأضعاف.
تقول مصادر محلية في القرية الساحلية، فضلت الاتّحاد ميديا عدم ذكر اسمها لأسباب أمنية إن مشروع الاستملاك قديم ويعود لعام 2012؛ إذ قامت الجهات المعنية بالأمر حينها، بتخمين سعر المتر في المنازل السكنية بمبلغ 25 ألف ليرة سورية، أما سعر دونم الأرض فقد تم تخمينه بمبلغ 5 ملايين ليرة سورية داخل المخطط التنظيمي، وبمبلغ 230 ألف ليرة خارج المخطط التنظيمي، وتضيف المصادر أن الحكومة التي تريد استملاك الأراضي بهذه المبالغ في الوقت الحالي، ترفض منحهم الأسعار الحقيقية المناسبة.
استيلاء على أملاك 200 عائلة
يبلغ سعر متر المنزل الجاهز للسكن في القرية اليوم أكثر من مليون ليرة سورية، وسعر دونم الأرض يبلغ بالحد الأدنى 120 مليون ليرة سورية، كما تقول المصادر.
اختلفت الأمور كثيراً اليوم عما كانت عليه في العام 2012، وشهدت الأسعار تبدلاً كبيراً في سوريا؛ ففي عام 2012 وهو تاريخ صدور القيم التخمينية للأراضي الزراعية والمنازل في مدينة جبلة، كان سعر الدولار مقابل الليرة السورية يبلغ نحو 70 ليرة سورية، أما اليوم يصل سعر الدولار إلى 3500 ليرة سورية، أي بزيادة نحو خمسين ضعفاً، ما يعني أن الأسعار التخمينية يجب أن تكون قد ارتفعت خمسين ضعفاً هي الأخرى، لكنه أمر لم تأخذه حكومة النظام السوري بعين الاعتبار.
جرى تخمين منزل تبلغ مساحته 140 متراً ومحاط بأرض زراعية صغيرة بالقرب منه، بمبلغ 8 ملايين ليرة سورية، بينما وللمفارقة يبلغ سعر طن الحديد المعد للبناء 3 ملايين ليرة سورية ونصف، أي أن سعر المنزل لا يشتري أكثر من 4 طن حديد. تصف المصادر الأمر بأنه “تشليح ونصب”، وتضيف أنه من غير المعقول أن تقوم أي جهة حكومية رسمية بأي بلد، بمثل هذا التصرف.
يبلغ عدد المتضررين من قرار حكومة النظام السوري بالاستملاك، نحو 200 عائلة، وفق مصادر الاتّحاد ميديا.
وتتابع المصادر التي تضيف أنه جرى تخمين سعر الأشجار المثمرة بقيم متعددة تتراوح بين 6000 ليرة وحتى 12 ألف ليرة وأعلاها لشجرة الجوز، علماً أن قيمة تخمينها لا تشتري حتى كيلو جوز بالأسعار التي حددتها وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التابعة للنظام السوري، وهي 23 ألف ليرة لكيلو الجوز البلدي، والشجرة لا تنتج أقل من 30 كغ بالحد الأدنى.
المشروع المؤجّل وغير القانوني
بحسب قانون الاستملاك الذي صدر عام 2012، فإن القيم التخمينية تصدر بناء على الأسعار الرائجة حين إتمام عملية الاستملاك، وليس بحسب الأسعار الرائجة لدى صدور القرار التخميني للاستملاك.
ثار أهالي القرية ضد قرار الاستملاك وطالبوا برفع المبالغ الممنوحة لهم مقابل التخلي عن أراضيهم ومنازلهم، وحتى وصل الأمر بهم للتهديد بالبقاء في الشارع حتى يتم حل مشكلتهم.
ويعود السبب في نشوب المعضلة والظلم الواقع على أهالي القرية، هو أن الجهات التابعة للنظام السوري يستحيل أن تنفذ مشروعاً كاملاّ ضمن المهل الزمنية المحددة، وغالبا ما تلجأ إلى التباطؤ في التنفيذ لاعتبارات كثيرة، على رأسها الإهمال والفساد، وهو ما يدفع ثمنه الأهالي بالعادة، وهو ما حدث لأهالي قرية رأس العين الساحلية.
في العام 2011، قال مدير المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية التابعة للنظام السوري، يوسف حمود، إنهم قاموا بإنجاز الدراسات المتعلقة بالمشروع ذاته، علماً أن تكلفته حينها كانت تبلغ ملياري ليرة سورية.
ورغم أن الدراسات تم إنجازها، وكان من المفترض أن تبدأ أعمال المشروع فوراً، إلا أن أحداً لم يتحدث عن المشروع، حتى عام 2014، حين قال مدير المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية الجديد وقتها، محمد العالول، إنهم حصلوا على رصيد وصل إلى 6 مليارات ليرة لينفقوها على المشاريع التي من الممكن تشغيلها خلال العام ذاته، ومن بينها مشروع وصل الساحل الغاب بأوتوستراد اللاذقية طرطوس.
ومرة ثانية تعثر المشروع، دون أن ينجز منه أي شيء على الأرض، واستمر الحال على ما هو عليه، حتى عام 2018، حين قال مدير فرع مؤسسة المواصلات الطرقية في اللاذقية، إنهم قد أدرجوا مشروع ربط طريق الساحل الغاب، بأوتوستراد اللاذقية طرطوس دمشق، ضمن خطتهم لذلك العام، بمبلغ تأشيري يبلغ 5.7 مليار ليرة سورية، بينما كان المشروع ذاته يكلف عام 2011 فيما لو تم إنجازه بدون تقصير أو فساد أو إهمال فقط ملياري ليرة سورية، دون أن يسألهم أحد عن أسباب هذا الهدر في المال العام.
ومنذ ذلك الوقت، “نام” المشروع الحكومي للنظام السوري في أدراج المكاتب دون أن يبصر النور، حتى قررت الحكومة خلال العام 2021 الحالي أن تعود لاستملاك الأراضي بأسعار “بخسة” من البسطاء لتكمل مشروعها المتعثر، والذي بالتأكيد بات يكلف عدة مليارات أخرى فوق قيمته الأساسية التي كانت مقدري بملياري ليرة عام 2011.
النّهب من الجهة الثانية
بمقارنة الوضع السابق، والذي تعرض فيه سكان القرية لغبن كبير، وبين ما فعلته حكومة النظام السوري مع المكتتبين على السكن الشبابي، وأخذها منهم مبالغ إضافية لأن الأسعار ارتفعت عما كانت.
أعلن عن مشروع السكن الشبابي قبل الثورة السورية، وأقبل الأهالي للتسجيل عليه بكثافة، حيث كان يكفي أن يدفع الشخص 75 ألف ليرة كدفعة أولى، ومن ثم تقسيط سعر المنزل شهرياً بمبلغ 2000 ليرة سورية، ليحصل على البيت في النهاية.
وكان من المقرر أن يستلم المكتتبون على السكن الشبابي منازلهم، مع بداية عام 2011 بغالبية المحافظات السورية، إلا أنه طرأ بعض التأجيل حتى عام 2012، وحينها أعلن عن تأجيل جديد حتى العام 2016، بحسب الدفعات، وبعض تلك الدفعات جرى تأجيلها إلى يومنا هذا، وفقاً للمصادر التي فضّل الاتّحاد ميديا عدم الكشف عن اسمها لأسباب أمنية
لكن حكومة النظام السوري حين قررت تسليم المنازل للمكتتبين عليها عام 2016، رفعت أسعار الاقساط والسبب أن الأسعار اختلفت وتضاعفت، فعوضاً عن مبلغ 2000 ليرة الذي كان القسط الشهري لمنزل أصبح ثمنه بعشرات الملايين، تضاعف إلى 10 آلاف ليرة سورية عام 2016، حين كان راتب الموظف لدى النظام السوري يبلغ نحو 18 ألف ليرة سورية، وعوضاً عن منح المكتتبين تعويض التأخير، تقاضت منهم المزيد من الأموال، في ظاهرة لا تحدث إلى مناطق النظام السوري.
وهكذا فإن حكومة النظام التي غرّمت المكتتبين على السكن الشبابي مبالغ إضافية بسبب تأخرها في تسليمهم منازلهم وارتفاع الأسعار اليوم عما كانت عليه ما قبل الثورة، ذاتها ستأخذ اليوم من أهالي قرية رأس العين أراضيهم بأسعار حددتها قبل أكثر من عشر سنوات، دون أن تراعي أي تغييرات طرأت على الأسعار، ما يهدد الأهالي بفقدانهم منازلهم وعدم القدرة على تأمين بديل عنها.